دورة الحياة في سفر القضاة

إن أردنا أن نُلخِّص سفر القضاة كله، يمكن أن نلخصه في ٤ عبارات مختصرة نجدها تتكرر في السفر كله بصورة لافتة للنظر. لكنها حقيقة تكشف كل قلب فينا.

١- عمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب

هذا الأمر مرتبط بعدة أمور واضحة في هذا السفر:

الأمر الأول: لم يكن لهم ملك ولا قائد، كما كان قبلاً موسى ويشوع أو كما حدث بعد ذلك في عصر الملوك. فهذا العصر لم يكن هناك لا قائد ولا ملك. فكانوا كثيرًا ما يبتعدون عن الرب. أو كما يعبِّر كاتب السفر «وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ لَمْ يَكُنْ مَلِكٌ فِي إِسْرَائِيلَ. كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَعْمَلُ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ» (قضاة١٧: ٦؛ ٢١: ٢٥؛ انظر أيضًا ١٨: ١؛ ١٩: ١).

الأمر الثاني: أنهم تركوا بينهم شعوبًا غريبة كثيرة كان الرب قد أوصى بطردهم؛ فكان هؤلاء يؤثرون عليهم ويجعلونهم يسيرون وراء آلهتهم ويتبعونهم فيبتعدون عن الرب جدًا. «فَسَكَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، وَاتَّخَذُوا بَنَاتِهِمْ لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً، وَأَعْطُوا بَنَاتِهِمْ لِبَنِيهِمْ وَعَبَدُوا آلِهَتَهُمْ. فَعَمِلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَنَسُوا الرَّبَّ إِلهَهُمْ وَعَبَدُوا الْبَعْلِيمَ وَالسَّوَارِيَ» (قضاة ٣: ١ – ٨).

الأمر الثالث: هذا الجيل من الشعب لم يكونوا هم الذين خرجوا مع موسى واختبروا ورأوا ما حدث عند خروج الشعب من أرض مصر – أرض العبودية – وبالتالي فإنهم لم يذكروا الأمر ولم يتكلموا به ويرددوه عبر الأجيال. كانوا يبتعدون عن الرب لأنهم لا يلهجون ويتغذون على ما صنعه الرب مع أجدادهم. وهذا جعل منهم جيلاً ضعيفًا أمام الشر لأنهم لم يعرفوا قوة وعظمة وقدرة إله آبائهم. يقول عنهم «وَقَامَ بَعْدَهُمْ جِيلٌ آخَرُ لَمْ يَعْرِفِ الرَّبَّ، وَلاَ الْعَمَلَ الَّذِي عَمِلَ لإِسْرَائِيلَ. (والنتيجة) وَفَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ وَعَبَدُوا الْبَعْلِيمَ. وَتَرَكُوا الرَّبَّ إِلهَ آبَائِهِمِ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَسَارُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى مِنْ آلِهَةِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ حَوْلَهُمْ، وَسَجَدُوا لَهَا وَأَغَاظُوا الرَّبَّ» (قضاة ٢: ٦–١٢).

٢- صرخ بنو إسرائيل إلى الرب

النتيجة الطبيعية لعمل الشر، والابتعاد عن الرب هو الضيق، والألم، والصراخ، والدموع، والعبودية. لا نتيجة أخرى يتوقعها الإنسان من ابتعاده عن الرب وتبعيته للشرير وتأثره بالأشرار. مهما طالت السنوات، ومهما كانت المُغريات، ومهما اختبروا من نجاحات مزيفة وبريق خادع للخطية فلا بد أن يأتي الصراخ والوجع.

يعلم الإنسان جيدًا أنه يسير في الطريق الخطأ، إلا أنه رغم توجعه يستكمل المسير في هذا الطريق فيزداد الألم والضيق حتى يصل مداه، فيصرخ. ومهما حدث فإننا نقول طوبى لمن يصرخ، ويوجِّه صرخته إلى الرب. المزامير ممتلئة بصرخات للرب «بِصَوْتِي إِلَى الرَّبِّ أَصْرُخُ» «هذَا الْمِسْكِينُ صَرَخَ، وَالرَّبُّ اسْتَمَعَهُ، وَمِنْ كُلِّ ضِيقَاتِهِ خَلَّصَهُ» (مزمور ٣: ٤؛ ٣٤: ٦؛ ١٤٢: ١؛ ...). بل كلمة الله كلها تمتلئ بمشاهد لصرخات من البشر إلى الرب. ومهما كان البُعد وحالة الضعف التي وصلنا إليها لا ينبغي أن نفشل في توجيه صراخاتنا إلى الرب المُنقذ.

٣- أرسل لهم الرب مُخلِّصًا

يسمع الرب، ويُصغي لصرخات أولاده وأحبائه، ينصت لكل الذين يصرخون إليه باحتياج حقيقي. كل من أتعبتهم وأنهكتهم الخطية، كل من ذلَّهم الشيطان وسحقهم، إذ يصرخون إلى الرب، يسمع لهم، ويصنع خلاصًا لكل المحتاجين إلى خلاصه.

٤- استراحت الأرض

ما أروع هذه الكلمات، وما أجمل هذه النتيجة الرائعة لعمل الرب. الأرض تستريح من الحرب والاضطراب اللذين كانا حادثين بسبب العبودية القاسية والشر والخطية التي ملأتها. وهكذا يحدث معنا وفينا ونختبره في قلوبنا. فمتى صرخنا وسمع الرب وأرسل لنا حلاً فإن القلب يستريح والنفس تهدأ والكيان كله يستقر في محضره ومعه وفي حضنه. نختبر ما اختبره التلاميذ حين أسكت الرب العاصفة وهدَّأ الرياح واستقرت السفينة وصارت إلى الشاطيء بأمان.