”يَشُوعُ بْنُ نُونَ“ هو أحد أعظم شخصيات الكتاب المُقدَّس، وقد تميزت حياته بالبداية القوية، وأيضًا بالنهاية القوية. فأول مرة نقرأ عنه، كانت بالارتباط بمعركة عسكرية، باعتباره رجل حرب، وكان عمره في ذلك الوقت حوالي ٤٥ سنة (خروج ١٧: ٨-١٣). وفي يشوع ٥: ١٤ نراه أيضًا ساجدًا وطائعًا: «فَسَقَطَ يَشُوعُ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ وَسَجَدَ، وَقَالَ لَهُ: بِمَاذَا يُكَلِّمُ سَيِّدِي عَبْدَهُ؟». والإشارة الأخيرة له في سفر يشوع قبيل موته، يظهر فيها أمامنا باعتباره رجل السجود والعبادة، فهو صاحب أشهر عبارة موجودة في البيوت المسيحية: «أَمَّا أَنَا وَبَيْتِي فَنَعْبُدُ الرَّبَّ» (يشوع٢٤: ١٥).
وقد تعيَّن قائدًا لشعب الرب بعد موسى. موسى كان مُعطي الناموس، لكن العمل الأساسي ليشوع كان قيادة الشعب إلى أرض الموعد، وكانت مهمته تتضمن إخضاع شعوب كنعان، وتقسيم الأرض للأسباط الاثني عشر. وفي ذلك كان يشوع رمزًا للرب يسوع المسيح كرئيس الخلاص لقديسيه، والقائد لقديسيه لامتلاك ميراثهم السماوي.
والسؤال هو كيف وصل يشوع إلى هذا المستوى؟ والجواب هو أنه صعد إلى هذا العلو ببطء، ولكن بثبات، إذ كان أمينًا للرب منذ حداثته؛ فآباؤنا الروحيين لم يصلوا إلى هناك بالصدفة، بل بالتدريب. ويسجل لنا أن يشوع مات وهو «ابْنَ ١١٠ سِنِينَ» (يشوع٢٤: ٢٩). ربما نستطيع أن نكون مؤثرين وحازمين في أمور الله، في شيخوختنا، كيشوع، إن تدرَّبنا على بعض المبادئ التي تدرب عليها في شبابه.
أما عن البداية، فنعرف أن الرب خلَّص بِقوَّته الشعب مِن يد المصريين، ونظر إسرائيل المصريين أمواتًا على شاطئ البحر. وبمجرد ما بدأت رحلة شعب الله إلى أرض الموعد كنعان، بدأوا في التذمر. لقد كان احتياجهم للطعام والماء مشروعًا، أما تذمرهم فلم يكن كذلك، لأنهم كانوا قد اختبروا قوة الله لتوهم، لكنهم سرعان ما حوَّلوا أعينهم عن الله إلى ظروفهم. وهكذا نفعل اليوم؛ فنحن نُضخّم مشاكلنا، ونُقلّل من شأن ربنا! لقد منحهم الله في نعمته المَنّ ليأكلوا، والماء ليشربوا (خروج ١٦: ١-١٧: ٧).
وواصل إسرائيل رحلته مختبرًا كل مِن قوة الله البديعة، وجُوده السخي، لكن ظهرت مشكلة أخرى: وهي عماليق (خروج ١٧: ٨-١٥). وأول ما ذُكر عن يشوع الذي معنى اسمه “يهوه مُخلّص”، كان بالارتباط بموسى الذي أوصاه بانتخاب بعض الرجال لمحاربة عماليق. وبينما كان يشوع ورجاله يُحاربونهم في الوادي، وقف موسى على الجبل رافعًا يديه، وطالما كانت يد موسى مرفوعة غلب الشعب، وإذا خفض يده كان عماليق يَغْلِب. وفى النهاية احتاج موسى مساعدة هارون وحور ليدعما يديه، وانتصر الشعب بقيادة يشوع على عماليق (خروج ١٧: ٨-١٣).
هذا هو الدرس الأول الذي علينا أن نتعلَّمه من تجربة يشوع في شبابه: يُمكننا أن نغلب عماليق لكننا بحاجة إلى معونة. وعماليق هو حفيد عيسو (تكوين ٣٦: ١٢)؛ وإن كان عيسو هو صورة للجسد، فعماليق صورة لأعمال الجسد. والحقيقة أن الجسد لا يزال في المؤمنين (رومية ٧: ١٣-٢٥)، لأننا ورثنا الطبيعة الآدمية من آدم، التي تُدعى أيضًا طبيعة الخطية أو الجسد. لقد قال الرب يسوع لنيقوديموس: «يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ»، وقبل ذلك قال: «اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ». وبمجرد خلاصنا نحصل على طبيعة إلهية أي نُولَد من الروح (يوحنا ٣: ٦- ٨؛ ١بطرس ١: ٢٣)، إلا أننا لا نزال نتعامل مع الجسد (غلاطية ٥: ١٦-٢٦).
لقد استطاع الشاب يشوع أن يهزم عماليق، ولاحظ ما يرد في خروج ١٧: ٨ «وَأَتَى عَمَالِيقُ وَحَارَبَ إِسْرَائِيلَ فِي رَفِيدِيمَ». إن الجسد يهاجمنا حتى وإن كنا مُخلَّصين، فهناك عدو بداخلنا! لكن كيشوع علينا أن نهزمه. كان موسى رمزًا للمسيح رئيس كهنتنا في السماء، وهو مرفوع اليدين للعون (عبرانيين٤: ١٤-١٦). والمسيح هو رئيس كهنتنا الأعظم، لا يكلّ ولا يعيا، ولا يحتاج إلى معونة ليرفع يديه! فهو هناك ليُعيننا لنغلب عماليقنا.
لقد خاض يشوع ورجاله حرب فعلية، واحتاجوا إلى مساعدة موسى. وكيف نخوض نحن صراعًا مع الجسد اليوم؟
أولاً:
علينا أن ندرك أن الجسد دائمًا موجود فينا، وأنه يطل برأسه، ويظهر حتى في أفكارنا، وعلينا أن نحكم عليه مستخدمين كلمة الله كمقياس لنا؛ علينا أن نحاربه داخليًا. ونحن بدورنا لنا أن ننتصر متى اتكلنا على الله العامل فينا، وأفسحنا المجال للروح القدس الساكن فينا «بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ» (رومية ٨: ١٣).
ثانيًا:
علينا أن نهاجمه خارجيًا بقراءة كلمة الله وتطبيقها على حياتنا. فمن الناحية العملية، كان يشوع هو رجل السيف؛ صورة لكلمة الله «فَهَزَمَ يَشُوعُ عَمَالِيقَ وَقَوْمَهُ بِحَدِّ السَّيْفِ» (خروج١٧: ١٣).
ثالثًا:
علينا أن نُصلي. والدرس الأدبي الذي علينا أن نتعلَّمه في هذا هو أن النصرة لا تتوقف على مقدار قوتنا، بل على إيماننا في المسيح وصلواتنا له. لقد هزم يشوع العدو بحد السيف، ولكن في وسط نصرته هذه، عرف الأساس الذي اعتمد عليه نجاحه، وهو موسى الواقف على رأس التلة وعصا الله في يده. لقد تعلم أن يقود الشعب إلى النصرة بالاعتماد على وسيلة غير منظورة للنجاح.
وإن يشوع وموسى رمزان لربنا يسوع المسيح؛ يشوع يرمز إليه كالمُقام من الأموات، وموسى يرمز إليه كالمرتفع عن يمين الله لأجلنا، والشفيع لنا عنده. والانتصار على عماليق هو بربنا يسوع ممثلَّاً في يشوع وموسى، وأن نحسب أنفسنا أمواتًا، وأن نسلك بالروح فلا نُكمل شهوة الجسد.
احتاج موسى إلى شخصين آخرين حتى يكتمل الرمز للمسيح؛ هارون رئيس الكهنة، وهو يُشير للمسيح كمن يساند قديسيه ويحفظهم من السقوط في تجارب كثيرة تُصيبهم. وكهنوت المسيح لحفظنا من الهزيمة أمام هجمات عماليق؛ العدو الشرس. أما ”حُور“ فمعناه ”أبيض“؛ إشارة إلى الطهارة والبر، وهو يُصور لنا شَفِيعُنا عِنْدَ الآبِ؛ «يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ» (١يوحنا٢: ١)، وبفاعلية عمله ودمه الكريم، يحفظ مركزنا عند الخطأ.
ويسترعي انتباهنا عبارة «فَكَانَتْ يَدَاهُ ثَابِتَتَيْنِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ» (خروج١٧: ١٢)؛ حتى اُحرزت النصرة الكاملة. وإن شمس هذا الدهر الذي نعيش فيه تميل إلى الغروب، والحرب دائرة على أشدها مع شعب الله.
وهذه الممارسات يجب أن تبدأ عند الخلاص، ولا نكف عنها إلى أن يأخذنا الرب إلى بيته.
وأخيرًا لاحظ ما يقوله خروج ١٧: ١٦ «لِلرَّبِّ حَرْبٌ مَعَ عَمَالِيقَ مِنْ دَوْرٍ إِلَى دَوْرٍ». إن الحرب مع الجسد دائمة لا توجد فيها هدنة، ولكي نصير مُحددين كيشوع في شيخوخته، علينا أن نكون متيقظين كيشوع في شبابنا. ويا ليتنا جميعًا هكذا!