رحلة في عقل راحاب

ليكون الجسد حي يلزم الروح، وهكذا يكون الإيمان فهو بدون ثمر أعمال ميت (يعقوب٢٦:٢)، واليوم ونحن نفتش عن الإيمان في عقول مَنْ تبنوه، يظهر أمامي سؤال: هل هُم أبطال لأنهم تبنوا الإيمان؟ أم صاروا أبطالاً لكونهم نالوا الإيمان؟

قناعتي أن الذي يصنع الأبطال هو الإيمان، لذا دعنا نفتش في مُنتَج جديد مِن مصنع الإيمان، ولكن في قسم جديد وهو قسم تاء التأنيس، فالإيمان يصنع أبطالًا ليس فقط رجال، بل أيضًا نساء فُضليات.

هي أم بوعز، وجدة داود وبالتبعية منها أتى المسيح حسب الجسد، فهي واحدة من ٤ نساء في سجل ميلاد ناسوت ربنا يسوع في متى ١، وفي سجل إيمان الأبطال في عبرانيين ١١ ورد اسمها فقط مع سارة، ولكن ليسا هُما فقط، بل أيضًا نساء أخذت أموتهنَّ بقيامة (عبرانيين٣٥:١١) مثل المرأة الشونمية.

راحاب التي لم يكن ماضيها مُشرفًا، فمن أصل ثماني مرات ذُكرت فيها، اقترن باسمها صفة "الزانية" في خمس منها، وأرجوك قبل أن تنظر لها بعين التقليل، أن تنظر إلى مفهوم الكتاب عن الزنى، فالمرأة إن تركت رجلها وتعلقت بآخر هي زانية، والمخلوق إذا ترك خالقه وتعلق بآخر هو كمثلها لأن الأرض قد زنت تاركًة الرب (هوشع٢:١). ولكن هل يقصد الكتاب ذكر ماضيها لمعايرتها؟ قطعًا لا، بل دائمًا يُظهر كم يشتاق الله ليغير حالة أي إنسان مهما كان وضعه، فالذي قَبِلَ راحاب؛ ثق إنه يقبلك! فماضينا لا يختلف عنها كثيرًا، وبفعل الإيمان في القلب يتغير الحاضر والمستقبل، وهو الأمر الذي حدث في حياة راحاب، فهي كمثل كل سكان أريحا سمعت بما فعله الرب وقت خروج بني إسرائيل من أرض مصر (يشوع٩:٢-١١)، ولكن الإيمان عمل في قلبها فكان له تأثيره في نقاط كما يلي: -

١-اليقين

قالت للرجلين: «علمت أن الرب قد أعطاكم الأرض»، يا لها من لغة ثقة نحتاج إليها كمؤمنين! لم يكن بني إسرائيل فعليًا امتلكوا، ولكن راحاب تكلمت بصيغة الماضي التأكيدية، فهل كانت تجاملهم أو تتملقهم؟ قطعًا لا، بل الذي أكّد كلامها لفظة الرب، وما دام الرب في المشهد، تلمع الثقة وينتفي الشك. عزيزي: هل أثمر الإيمان في قلبك يقينًا من جهة الله وأقواله؟

٢- الله الفاعل

وتقول سمعنا كيف يبّس الرَّب مياه بحر سوف، لم تتعامل راحاب مع معجزة شق بحر سوف على أن الصدفة قد فعلت، فكثيرًا ما نفعل ذلك في حياتنا اليومية أن ننسب الأحداث للصدفة! لم تفعل ذلك، بل نسبت الأمر للرب؛ فهو صاحب التدخلات المعجزية. عزيزي، الإيمان حينما يحدث شيء يُرجع الفضل للرب، وحينما لا يحدث شيء يتوقع تدخل الرب، لا يَقنَع بالصدف ولا ينسب لغير الله.

٣- الخوف المُقدس

سمعنا فذابت قلوبنا، لم تكن كشخص لا يبالي بما يسمعه، بل أثمر في قلبها خوف مقدس، قادها هذا الإيمان لله الحقيقي، ولعلك تلاحظ معي كانت الأخبار الآتية أخبار قضائية عن الله فخافت وقررت أن تهرب من الهلاك. عزيزي ما هو رد فعلك تجاه يوم قادم هو الدينونة يليه جحيم أبدي، لمن لا يطيع إنجيل المسيح؟ هل إعلان كهذا ينشئ فيك خوف مُقدس؟ أم تستهين بقضاء الله!

٤- الاعتراف بالربوبية

لأن الرب إلهكم هو الله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت، يا له من اعتراف لم يعلِّمها أحدٌ إياه، فقط الإيمان العامل في القلب هو الذي قادها إلى الله الحقيقي، فليس في السماء ألهة تُعبد حيث كانت منتشرة عبادة الكواكب، ولا على الأرض أصنام تأخذ مكان الله.

عزيزي ربما في ظاهر القصة تشعر وكأن بدون ترتيب دخل الجاسوسين عندها، ولكن في باطنها تَرى أن الله أرسل الجاسوسين إليها، والذي يتوافق مع فكرتي، أننا لم نسمع أن الرجلين بَشَرَ إياها، فهم وجدوا فيها الإيمان، بل والأدق وجدوها في الإيمان، ورتب الله معرفتها بالجاسوسين لينقذها من الغضب، وليس إنقاذها من الغضب كان بسبب معروفها مع الجاسوسين، فانظر معي ماذا يقول الكتاب: «بِالإِيمَانِ رَاحَابُ الزَّانِيَةُ لَمْ تَهْلِكْ مَعَ الْعُصَاةِ، إِذْ قَبِلَتِ الْجَاسُوسَيْنِ بِسَلاَمٍ.» (عبرانيين٣١:١١). فسبب عدم الهلاك هو الإيمان بالله الحي، وهذا الإيمان أثمر في قلبها أن تقبل الجاسوسين وتساعدهم.

عزيزي الإيمان لا يعطيه الله للإنسان بشروط إن فعل أو إن امتنع، لكنه هو عطية مجانية في القلب، يُسر الله أن يعطيها مجانا «لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ» (أفسس٨:٢)، فالإيمان الذي أنقذ راحاب من هلاك زمني، قادرًا أن ينقذك من هلاك أبدي إن قبلت الخبر واعترفت مثل راحاب. أما من جهة الخبر فهو أن المسيح مات من أجلك، ومن جهة الاعتراف هو أن تعترف به مخلصًا لخطاياك وربًا على الحياة.

٥- إطاعة الوصية

طلبت راحاب علامة أمانة (يشوع١٢:٢-٢١) لأجل بيتها ونفسها ليُنقذوا من الهلاك، فطلب الرجلين أن تربط حبلًا قرمزيًا في أعلى الفتحة التي أنزلتهما منها ليهربا، فذهبت وربطت حبل القرمز في الكوة، وهنا طاعة الوصية فقد وضعت علامة القرمز الأحمر دون خوف - والتي أرجو أن تضعها على قلبك وهي إشارة لدم المسيح- ولتلاحظ معي في يشوع٢٢:٦-٢٥ عند دخولهم استحيوها مع كل بيتها، ورغم أن بيتها كان على السور الداخلي لم يُضر رغم سقوط السور الخارجي.

لقد كان للإيمان، المعروف لدى الرب، نتيجة وهو حفظ حياتها من الهلاك، ولعلامة الإيمان - الحبل القرمزي- عند يشوع وجيشه لتُحفظ من القتل مع بيتها، وتسكن في وسط شعب إسرائيل، وتتزوج سلمون أحد الجاسوسين.

٦- المخاطرة الواثقة

رأينا فيما سبق أن الذي نجّى من الهلاك هو الإيمان، فليس إلاه لنتبرر أمام الله ولا نأتي إلى دينونة، ولكن ليتبرر إيماننا هذا أمام الناس لا بد أن يثمر في حياتنا أعمال تمجد الله «كَذَلِكَ رَاحَابُ الّزَانِيَةُ أَيْضًا، أَمَا تَبَرَّرَتْ بِالأَعْمَالِ، إِذْ قَبِلَتِ الرُّسُلَ وَأَخْرَجَتْهُمْ فِي طَرِيقٍ آخَرَ؟» (يعقوب٢٥:٢)، عزيزي لقد عمل الإيمان بالله الحقيقي في قلبها لتخاطر بحياتها وتقبل في بيتها وبسلام الجاسوسين، رغم أن ذلك يعرضها للخطر مع حاكم أريحا.

وفي نهاية حديثي، لعلك ترى كيف كان الإيمان وما زال هو صانع الإبطال والعامل المشترك في أثمارهم، وإلى أن نلتقي في عقل آخر امتلكه الإيمان.