عندما رُفض المسيح

رأينا فى المرة السابقة كيف قوبل ربنا المعبود بالرفض فى خدمته.  ورأينا مواقف من حياته تعرض فيها لمشاعر الحقد والعداوة من العالم بصفة عامة ومن اليهود بصفة خاصة.  وكان هذا الرفض مؤلماً وجارحاً لمشاعره الإنسانية.  لكن ما يلفت نظرنا ويدهشنا حقاً هو ردود أفعاله بإزاء المواقف الصعبة والجارحة والمعاكسة لروحه، إذا قورن بأعظم شخصيات الكتاب المقدس.

* فإذا عقدناالمقارنة بين شخص الرب وبين إرميا النبى عندما رُفِضت خدمته.  عندما قالوا «هلم فنفكر على إرميا أفكاراً ... ولكل كلامه لا نُصغِ» (إرميا 18: 18).  فماذا كان رد فعله؟  لقد تولدت فى نفس ذلك النبى الرقيق الباكى، مشاعر عنف وغضب وقسوة غير عادية.  إذ نراه يصلى قائلاً: «... لذلك سَلِّمْ بنيهم للجوع وادفعهم ليد السيف فتصير نساؤهم ثكالى وأرامل وتصير رجالهم قتلى الموت وشبانهم مضروبى السيف فى الحرب .. لا تصفح عن اثمهم ولا تمح خطيتهم من أمامك».  وما أبعد هذا عن مشاعر السيد الذى قال«تعلموا منى لأنى وديع ومتواضع القلب»، والذى نظر إلى مدينة أورشليم التى رفضته وبكى عليها (لوقا19: 41).  والذى طلب الغفران لقاتليه.

  ولنأخذ مثلاً آخر فى إيليا ذلك العنيف الجبار عندما رُفِضت خدمته (1ملوك19).  ماذا كان رد فعله؟  لقد خارت شجاعته وجلس مكتئباً تحت رتمة وطلب الموت لنفسه.  ثم دخل إلى المغارة فى جبل حوريب يُسَكِّن فيها مشاعره.  وعندما سُئل «مالك هنا يا ايليا؟» يرد بالقول «غرت غيرة للرب»، وكأنه يقول وهذه الغيرة ذهبت هباء.  ثم ذكر أن حالة الشعب رديئة للغاية وميئوس منها، ولا جدوى من الخدمة فى وسطهم.  وأخيراً  ذكر أنه بقى وحده وهم يطلبون نفسه.  لكن عندما نتحول من العبد الفاشل إلى السيد الكامل، سنجد أن كماله كان يشع ويشرق فى يوم رفضه.  بعد كل معجزات النعمة، وكلمات المحبة، وأعمال القوة العظيمة؛ رُفِضَ واحتُقِرَ وتشاوروا عليه لكى يقتلوه.  حتى يوحنا المعمدان شك فيه.  لقد شعر أنه عبثاً تعب باطلاً وفارغاً قد أفنى قدرته، بلا جدوى أو نتيجة.  لكنه وسط كل هذا رفع عينيه نحو السماء وقال «أحمدك أيها الآب .. نعم أيها الآب، لأنه هكذا صارت المسرة أمامك» (متى11: 25،26).  ما أروعه! لقد كان خاضعاً مسلماً كل شئ بين يدى الآب المحب.  لم تكن هناك غيرة نظير غيرة الرب يسوع الذى قال «غيرة بيتك أكلتنى» (يوحنا2: 17)، ولم تكن حالة اسرائيل أسوأ مما كانت عليه يوم خدم المسيح فى وسطهم، وأيضاً كم من مرة طلبوا نفسه ليأخذوها؛ ومع ذلك فهو لم يتراجع قط ولم يبحث عن مغارة لكى يشعر فيها بالأمان.  هذا الصمود رغم كل المفشلات كان مصدره قول المسيح «جعلت الرب أمامى فى كل حين» (مزمور16: 8).

* ولو أخذنا مثالاً ثالثاً هو يفتاح الجلعادى (قضاة11).  فى البداية رفضه إخوته وطردوه.  فهرب يفتاح من وجه إخوته.  وبعد أيام حارب بنو عمون إسرائيل.  فذهب شيوخ جلعاد إلى يفتاح وقالوا له «تعال وكن قائداً لنا فنحارب بنى عمون».  فقال يفتاح «أما أبغضتمونى وطردتمونى .. والآن إذا أرجعتمونى فأكون لكم رأساً .. فجعله الشعب رأساً وقائداً».  إن مشاعر الرفض قد أنشأت فيه كبرياءً واعتداداً  بالذات.  أما السيد فعندما رُفِض، قاده هذا لمزيد من الاتضاع وإنكار النفس.  مرة «تشاوروا عليه لكى يهلكوه» (متى12: 14)، «فعلم يسوع وانصرف من هناك» ليس لأجل نفسه بل «تبعته جموع كثيرة فشفاهم جميعاً، وأوصاهم أن لا يظهروه»(عكس يفتاح الذى طلب أن يكون رئيساً عليهم).

* وأخيراً نرى داود عندما رُفِض من شاول وإسرائيل، وشعر بمرارة الرفض.  هذا أنشأ فيه مرة روح انتقام عنيفة من نابال (1صموئيل25).  ومرة أخرى قاده ليبحث عن مكان يُقْبَل فيه حتى لو كان هذا المكان هو أرض الفلسطينين (1صموئيل27).  ونحن أحياناً نفرج عن أنفسنا بأى شئ حتى لو كان ذلك هو فعل الخطية لكى نرضى أنفسنا.  أما السيد فإنه قط لم يرض نفسه ولم يفعل شيئاً ليس فى محله.

*
مرة كان فى اليهودية يخدم، لكن اليهود رفضوه وأرادوا أن يوقعوا بينه وبين المعمدان.  وأثاروا ضجة حوله بخصوص المعمودية.  مع أن يسوع نفسه لم يكن يعمد بل تلاميذه (يوحنا4).  فماذا كان رد فعله نتيجة هذا الرفض؟  لقد ترك اليهودية ومضى أيضاً إلى الجليل.  وكان لابد أن يجتاز السامرة.  وفى السامرة وجد بعض القبول والترحيب والتعويض عن رفضه مُمَثَّلاً فى المرأة السامرية وفى أهل مدينة  سوخار.

  *
  وفى موقف آخر حينما تمت الأيام لارتفاعه دخل قرية للسامريين فلم يقبلوه (لوقا9).  على عكس ما حدث فى المرة السابقة.  وهذا الموقف أثار التلاميذ الذين استنكروا الإهانة التى لحقت بسيدهم فطلبوا ناراً من السماء على غرار ما فعل إيليا فى يومه عندما رُفِض فى ذات البقعة فى السامرة (2ملوك1).  لكن الرب قال لتلميذيه إن ابن الإنسان لم يأتِ ليُهلِك أنفس الناس بل ليُخلّص.  فمضوا إلى قرية أخرى بكل هدوء.  هذه كانت  ردود أفعال السيد التى اتسمت بروح الوداعة. وهكذا رأينا الفارق بين السيد والعبيد؛ فإرميا عندما رُفِض ثار، وإيليا خار، ويفتاح تكبر، وداود مرة أراد الانتقام وأخرى ذهب إلى أرض الأعداء بحثاً وراء الشعور بالقبول.  فإن فى الإنسان احتياجاً نفسياً طبيعياً لأن يكون محبوباً ومقبولاً.  أما المسيح فبدل محبته أبغضوه واحتقروه ورفضوه.  ومع ذلك فلم يَكُفّْ عن العطاء والخدمة والمحبة الباذلة.