انفراد المسيح

   من منا لا يشعر بالاحتياج إلى صديق يأتمنه ويأنس إليه، يودعه ثقته ويشاركه اهتماماته، ومعه يشعر بالهناء؟  هذا احتياج نفسى طبيعي عند كل إنسان.  أما المسيح فلم يجد في الناس من يشبع هذا الاحتياج.  بل قال عن نفسه في النبوة «سهدت وصرت كعصفور منفرد على السطح» (مزمور102: 7).

وكان هذا هو اختباره الشخصي في حياته هنا على الأرض، إذ عاش وحيداً منفرداً متروكاً من الجميع.  فالذي عاش بلا مأوى وليس له أين يسند رأسه؛ محروماً من أبسط حقوقه الطبيعية، عاش أيضاً بلا رفيق أو أنيس.  لا يجد من يفهمه أو يشعر به، مع انه كان دائماً الصديق الحنون والخل الوفي لكل المحتاجين.

في بداية خدمته تركه أقرباؤه وإخوته، وقالوا عنه مختل العقل.  وتركه أهل الناصرة وقالوا «أليس هذا ابن النجار».  وكثيرون ممن تبعوه أينما سار عثروا ورجعوا من ورائه ولم يعودوا يمشون معه وقالوا عن تعليمه «هذا الكلام صعب، من يقدر أن يسمعه».  وفى مواقف كثيرة من حياته نراه وحيداً ومنفرداً، فكان «يعتزل في البراري ويصلى» (لوقا 5: 16)، وبعد أشهر المعجزات نقرأ أنه «اعتزل إذ كان في الموضع جمع» (يوحنا 5: 13)، ومرة أخرى أنه «صعد إلى الجبل منفرداً ليصلى، ولما صار المساء كان هناك وحده» (متى 14: 23).

لا شك أن المسيح كإنسان كان يعانى من الشعور بالوحدة، إذ لا يجد من يفهمه ويشاركه أفكاره واهتماماته، مسراته وأحزانه، نسمعه يقول «انتظرت رقة فلم تكن، معزين فلم أجد» (مزمور 69: 20).  ولا شك أنه كان يحز في نفسه الجفاء والجحود.  لكن عزاءه وسلامه كانا في رفقة الآب له؛ إذ يقول «ولم يتركني الآب وحدى لأنى في كل حين أفعل ما يرضيه» (يوحنا 8: 29).  وفى خلوته مع الآب، كان يفضى بكل متاعبه وأثقاله، ويجد في حضنه الراحة وكل التعويض.

لقد أظهر تلاميذه كل بلادة وبطء في فهم أقواله،  وكانوا بعيدين كل البعد عن أفكاره ومشاعره.  فبينما كان يُظهر أنه سيذهب إلى أورشليم ويتألم كثيراً من الشيوخ ورؤساء الكهنة ويُقتَل وفى اليوم الثالث يقوم؛ أخذه بطرس وابتدأ ينتهره قائلاً «حاشاك يا رب لا يكون لك هذا» (متى 16: 22).  فقد كان يتبع المسيح لأجل المُلك والمجد والمكانة العالية هنا.  ومرة أخرى تحدث الرب أيضاً عن آلامه واتضاعه وصلبه؛ حينئذ تقدمت أم يعقوب ويوحنا وطلبت منه أن يجلس ابناها عن يمينه وعن يساره في ملكوته، فلما سمع العشرة اغتاظوا من أجل الأخوين.  أيمكن أن تكون هذه إجابة على كلامه عن آلامه وصلبه؟!  ومرة ثالثة قال المسيح لتلاميذه «إن ابن الإنسان سوف يُسلّم إلى أيدى الخطاة، وأما هم فلم يفهموا هذا القول. وداخلهم فكر من عسى أن يكون أعظم فيهم» (لوقا 9: 44)؛ وتطور الفكر إلى مجادلة فنقرأ أنهم تحاجوا في الطريق بعضهم مع بعض في من هو أعظم (مرقس 9: 34).  ما أبعدهم عن روح المسيح وفكر الاتضاع الذى كان فيه.  وكم كان جارحاً لمشاعره وأحاسيسه المرهفة أن يرى أحباءه ليسوا في شركة معه في أفكاره وعواطفه، وأن يرى ردود أفعالهم بهذا الشكل.  لقد كان كعصفور منفرد على السطح.

  وفى أحرج الأوقات، قبل الصليب مباشرة، قال الرب لتلاميذه «تأتى ساعة، وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدى» (يوحنا 16: 23).  وهذا ما تم حرفياً لحظة القبض على الرب حيث تركه التلاميذ كلهم وهربوا، ومضى كل واحد إلى خاصته يتلمس السلامة لنفسه؛ تاركين المسيح وحده في ساعة الشدة بلا رفيق يواجه جميع الأشرار.

كان الرب يسوع طوال حياته قريباً من المحتاجين؛ يسد أعوازهم، صديقاً للمتألمين والمجروحين؛ يرثى لهم ويعينهم في ضعفهم ويمسح دموعهم، يفهم مشاعر الآخرين ويقدر معاناتهم؛ لكنه في أحزانه الشخصية لم يجد من يقف معه أو يشاركه آلامه؛ بل كان وحيداً يواجه الآلام.

صديقي العزيز، هل تشعر بأنك وحيد في هذه الحياة؟  وهل لا تجد من يفهمك ويشاركك همومك ومتاعبك؟  هل تشعر بالحرمان من العطف والحنان؟  وهل اصطدمت بجفاء الأهل والأصدقاء؟  إن الرب يسوع هو الصديق الأقرب من الأخ؛ إنه يستطيع أن يفهمك ويتعاطف معك، ويقف بجانبك ويحل مشاكلك.  إن قلبه مفتوح لك، وعنده الوقت الكافي لتفضى له بكل متاعبك.  لقد اختبر الوحدة والانفراد ليكون لكل منا الخل الوفي.

               ستبقى لي خلى            الوفي طمان قلبي وضامنــــي
               قيثارتي في وحدتي        ترنيمتـــــي في غربتـــــــــــي
                  ففيك لي يا سيدى           أنشــــــودة لا تـــــنتــــــــــــــهى