هذه القصة الحقيقية الرائعة والتي أفرد لها التاريخ صفحات غالية، إنما ترسم لنا صورة حية امتزجت فيها أجمل أعمال الإيمان المسيحي مع أرق المشاعر، وهى تشجعنا أن نحتمل كل شيء لأجل المسيح لكى تضئ نعمته فينا، وينتصر إيماننا، ويتمجد الهنا.
متاعب منذ البداية
في قرطاجنة بشمال أفريقيا، في بداية القرن الثالث الميلادي، قُبض على شابة ضمن مجموعة كانت تدرس مبادئ المسيحية وعلى وشك المعمودية.
كانت بربتوا من أسرة شريفة، وقد تربت تربية حسنة وتزوجت زواجاً كريماً، وكانت آنذاك في الثانية والعشرين من عمرها، ولها طفل صغير تحمله على ذراعها. وعلى ما يبدو فإن جميع أفراد أسرتها كانوا مسيحيين عدا والدها الشيخ الذى كان لا يزال وثنياً، أما زوجها فلم يذكر التاريخ عنه شيئاً.
وكان أبوها الشيخ يحبها جداً، وأيضاً يخشى ما سيجلبه إيمانها بالمسيح عليها من موت، وما سيجلبه موتها في سبيل إيمانها بالمسيح من عار وخجل على عائلته.
آلام مضاعفة
لم يكن على بربتوا أن تجاهد فقط أمام الموت المريع الموضوع أمامها، بل أيضاً أمام الروابط الطبيعية لأسرتها ورضيعها. ولما جيء بها أمام المحاكمة، رجاها أبوها أن تنكر أنها مسيحية، فأجابته بهدوء مشيرة إلى إناء موضوع على الأرض «هل يمكنني أن أدعو هذا الإناء بغير اسمه» أجابها «كلا»، فقالت «وهكذا أنا لا أستطيع أن أقول عن نفسى سوى إنني مسيحية». وبعد أيام قليلة اعتمد هؤلاء الرفاق إذ كانوا تحت حراسة ولم يكونوا قد وضعوا في السجن بعد. ولكن لم يمض وقت طويل حتى وُضعوا في السجن. ولما اقترب موعد الحكم أسرع الأب إلى ابنته وهو منزعج مضطرب القلب؛ ورجاها قائلاً «ارحمي شيخوختي واشفقي على أبيك وانظري إلى طفلك الصغير هذا الذى لا يستطيع أن يعيش طويلاً بعد موتك، خفضي من عزيمتك وعلو همتك ولا تلقى بنا إلى الهلاك».
وبينما هو يكلمها أقبل عليها وقبّل يديها وارتمى أمامها، وأخذ يستعطفها ويلح عليها بدموع كثيرة.
ثبات وصمود
ومع أنها تأثرت كثيراً بمحبة أبيها، لكنها ظلت هادئة ثابتة، وكانت مهتمة أكثر بخلاص نفسه. ثم قالت له «إن ما يحدث لي موكول لإرادة الله لأننا لا نثبت بقوتنا لكن بقوة الله».
ولما جاء الوقت الأخير، اجتمع جمهور عظيم وظهر ذلك الشيخ مرة أخرى يستعطفها حاملا طفلها على ذراعيه ولكنها بقيت ثابتة ونظرها ليس على وليدها، بل على إله القيامة مثل أبيها إبراهيم. وإذ كانت قد استودعت طفلها لأخيها وأمها، أجابت الوالي بثبات حين سألها «هل أنت مسيحية؟» فأجابت «نعم، أنا مسيحية» فتقرر على الفور مصيرها.
أمام قرون بقر الوحش
عندما جاء وقت الإعدام سيقوا إلى الملعب وعلى وجوههم البِشْر والسرور. وقد أُلقى الرجال للسباع والدببة والفهود، أما النساء فقد وُضِعن أمام بقرة متوحشة كانت تدفعهن هنا وهناك، وما لبثوا أن ارتاحوا من آلامهم ودخلوا إلى راحتهم حتى يأتي الوقت السعيد الذى يدخلون فيه إلى فرح سيدهم.
وقد سبح الله كثيرون من المتفرجين حينما رأوا بربتوا تغنى وترنم للرب. وهكذا اخُتتمت القصة على الأرض، انتظاراً لاستكمالها أمام كرسي المسيح، حيث تنال المكافأة هي وكل الذين أحبوا السيد أكثر من الكل، أباً أو أماً، أخاً أو أختاً، ابناً أو ابنة، حتى الحياة ذاتها.