هل يمكن لقروى مصري أن يتعايش مع الشعوب والبيئة فى كورنثوس وأثينا وروما؟ إن حياة سيرابيون، خادم المسيح المصري الذى ولد فى القرن الرابع عشر فى قرية من قرى صعيد مصر يمكن أن تجيب عن هذا السؤال. لقد عاش القديس سيرابيون -بعد أن تغيرت حياته بمقابلته مع المسيح بالإيمان- فى كهف حجرى من جبل أو فى خيمة صُنعت من الأقمشة الممزقة، وكثيراً ما التحف السماء فى الصحراء؛ وهو يتنقل من قرية إلى قرية ليكرز بالمسيح المصلوب. وكان وجه سيرابيون المشع بالتقوى والسلم والابتسام يجذبك لتقف بشغف لتسمعه وهو يكرز بحرارة نارية قلبية عن ولادة وحياة وآلام وقيامة ولاهوت المسيح وخلاصه لكل خاطئ جريح. وفى أحد الأيام، وبينما كان سيرابيون يصلى جاءته دعوة سماوية كانت بالنسبة له عجيبة جداً «اذهب إلى اوروبا لتشهد لى هناك» ولم يصدق فى البداية، ولكن تدربه المستمر على معرفة صوت الله فى حياته جعله مرة بعد الأخرى يتأكد تماماً من الدعوة. ولما سأل مَنْ هُم أكبر منه وأكثر حكمة ودراية بالأمور الروحية، أجابوه أن الأمر صعب وعجيب، فأين المال واللغة والخبرة واختلاف الثقافات؟ ولكنهم قالوا له أيضاً إن كل شئ مستطاع للمؤمن إن كانت هذه دعوة الله له.
وأخيراً أخذ سيرابيون الشاب القرار، وبدأ المسار وهو لا يحمل الا سلاحه الذى هو الكتاب المقدس، ولم يكن معه غير ذلك إلا عصا الطريق وثوبه الوحيد الكتانى. وسار ناحية الشمال يطوى الأرض، وبعد أيام طوال وليالٍ لا تقوى على السير فيها حتى الجمال؛ وصل إلى الاسكندرية وكانت حينئذٍ مدينه يختلط فيها العلم بالمال والشرور الوثنية، رغم أن المسيحية كانت فى ذلك الحين ديانة الإمبراطورية الرسمية منذ أكثر من نصف قرن، إلا أن الآلهة القديمة كانت لا تزال فى المعابد وتجد لها قلوباً كثيرة تعبدها.
وفى ميناء الاسكندرية وبعد نقاش طويل وشاق، وافق ربان إحدى السفن أن يأخذ سيرابيون معه إلى كورنثوس فى مقابل أن يعمل كعامل نظافة فى السفينة وكخادم للركاب. وكم عانى سيرابيون فى السفينة من تعب ودوار، فماذا يعرف قروى مصرى عاش فى الصحراء عن الماء والبحار والأخطار! وأخيراً جاءت الساعة التى انتظرها، ووقعت عينا الشاب على هضبة مرتفعة تحتضنها مدينة كورنثوس. وهناك وجد العجب العجاب وكل المتناقضات من الشيوخ و الشباب، رأى تجارة العبيد والألعاب الاولمبية. وأخذ يتجول فى المدينة حتى أضناه السير، فجلس على رصيف كان وراءه مسرح قديم. وعندما أقبل المساء، فوجئ سيرابيون برجل وامرأة، عرف من ملابسهما أنهما ممثلان، وقفا أمامه، وفهم أنهما زوجان، وبالكاد استطاعا أن يُفهماه انهما يريدان أن يشترياه ليساعدهما فى المنزل. فلم يتردد فى أن يقبل أن يكون مثل سيده، فصار لهما عبداً وقدما له الثمن عشرين من الفضة.
كان الممثل وزوجته يقضيان النهار وبداية الليل فى المسرح للعمل، أما فى المساء فكان يجتمع فى منزلهما عشرات الأصدقاء للفساد واللعب وشرب الخمر . لاحظ الممثل مع زوجته اجتهاد وهدوء عبدهما، وكيف كان دائماً يقابل الاساءة بالإحسان والمودة• وفى إحدى الليالى اشتد أثر المُسكر بواحد من الزائرين، فأشعل النيران فى المنزل، وتمكن سيرابيون بكل ما عنده من طاقة وتضحية من إطفاء النيران قبل أن تحرق البيت ومَنْ فيه. إلا أن يدى سيرابيون ووجهه احترقت فى ذات الوقت الذى كان فيه الرجل السكير يشتم سيرابيون ويتهمه بأنه هو الذى أشعل النيران، رغم أن جميع مَنْ بالمنزل قد رأوا هذا السكير وهو يشعل النيران. أما سيرابيون فلم يُجِب بكلمة واحدة، بل حاول بقدر طاقته إخفاء آلامه المبرحه بابتسامة صادقة تجاه هذه النفوس.من ذلك اليوم، وبعد محاولة علاج سيرابيون من الحريق وآثاره، أخذ الممثل وزوجته يراقبان سيرابيون . نعم، إنه إنسان فوق العادة، بسبب ما رأياه ولا يمكن لإنسان على الأرض، ولا سقراط نفسه الذى نادى بالفضيلة وشرب السم لأجلها، أن يعيش مثل هذا الرجل. لابد أن معه وفيه قوة أخرى ليست من هذا العالم. وفى أحد الأيام شاهداه يتسلل إلى أحد اجتماعات المسيحيين .
إذاً فهو بدون شك مسيحي؛ فهل هذا سر تقواه وفضيلته؟ وحالاً طلبا منه أن يكشف عن سره، فحكى لهما كيف تغيرت حياته بمقابلته بالمسيح، وأن الله أرسله إلى هنا، وبشرهما بخلاص المسيح وقدرته العظيمة فى أن يحوِّل أشر الأشرار ليصيروا قديسين أبراراً بواسطة دم المسيح (2كورنثوس 5: 17). وفى الحال قبلا المسيح واعتمدا وصارا خادمين للمسيح، ومزقا صك عبودية سيرابيون، وحينما أراد أن يرد لهما الفضة رفضا بإصرار. وكم كان وداع سيرابيون لهما مؤثراً، لقد تمنيا أن يبقى معهما وقتاً أطول، لكنه كان قد أدى مهمته. وحسب قيادة الرب له سافر من هناك إلى أثينا، ومنها إلى روما سيدة العالم في ذلك الوقت. وفى أثينا وروما قَبِل أن يكون عبداً عدة مرات، وربح العشرات للمسيح. ويقول التاريخ أنه عاد إلى مصر بعد أن تقدم به العمر، لتحتضن رمال صحراء مصر الغالية جسده، ولتسكن روحه في الفردوس مع المسيح، ينتظره وقت لابد وأن ينال فيه المكافآت والاكاليل.
صديقى . صديقتى إن سيرابيون باع نفسه كعبد، واحترق لأجل الآخرين طواعية، ليكون صورة باهتة للرب يسوع المسيح، الذى «إذ كان فى صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد» (فيلبى 2: 5، 6)؛ ليحررنا من عبودية الشيطان «إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً» (يوحنا 8: 36). لقد احترق لأجلنا فى الصليب، اسمعه فى مزمور 22: 41 يقول «صار قلبى كالشمع قد ذاب فى وسط امعائى»، فهل تُقبل إليه واثقاً أن العبودية للمسيح هي أحلى حرية على وجه الاطلاق بل هي الحرية الحقيقية؟ صلاة: يا ربى يسوع يا أعظم رفيق. يا من بدلاً منى دخلت الحريق، متعنى بحبك الحقيقي ورافقني يا أرق رفيق طوال الطريق •• آمين