سامى طالب مشاكس، لا يعرف الهدوء، يهرّج كثيراً، ويضحك كثيراً بسبب أو بدون سبب. وكانت شقاوته هذه حديث أغلب المدرسين بالمدرسة، وكنت كمدرس أعانى من سوء سلوكه، ليس فى حصة الفيزياء فقط بل وحتى فى حصة التربية الدينية، فكان يعطل زملائه عن قبولهم المسيح بهزله وعدم جديته.
أتمّ سامى دراسته فى معهد المعلمين، ورجع إلى بلدته، وهو يحمل دبلوماً يؤهله العمل كمدرس إبتدائى، مرت السنون وحملت معها سامى وقصته، فأمست ذكرى. وفى مارس الماضى زرت إحدى البلاد وأثناء مشاركتى بكلمة وعظ فى الاجتماع، لفت انتباهى شاباً يافعاً، يجلس فى وقار الشيوخ، ويقبع فى جلباب فضفاض، وجهه يلمع، يتوسطه شارب شديد السواد، وكان يتابع بحماس. وبعد الاجتماع صافحته فبادرنى بالقول:
أنا سامى، هل تتذكرنى يا أستاذ؟
فقلت له: ومَنُ لا يعرف سامى!
وأردف قائلاً : على فكرة مجهودك معى لم يضيع هباءً، فأنا الآن صرت واحداً من عائلة الله. اشتقت أن أعرف إختباره مع الله؛ فقلت له: وأين حدث ذلك؟
فقال: فى الترعة.
واستطرد قائلاً : ذهبت مع أبى لنغسل بعض أغنامنا، استعداداً لجزها، فخلعت ملابسى ونزلت إلى الماء، وحملت خروفاً لأغسله، فغاصت رجلى فى الطين، حاولت أن أرفعها، فغاصت الأخرى بعيداً عن الشاطئ فى قلب الترعة. فتركت الخروف وحاولت الخروج، فأنا لم أتعلم العوم، وأمسكت ببعض الأعشاب، كل هذا وأنا فى صمت شديد حتى لا ينتبه أبى، لأنه رجل عجوز وإذا حاول إنقاذى فقد يصيبه مكروه.
إلا أن محاولاتى كلها قد باءت بالفشل، فإذ بى أصرخ وأنا أضرب الماء بذراعى فى كل الاتجاهات.
رأنى أبى، فارتمى بثيابه فى الماء، وأمسك بيدى، وقال لى: "لا تخف، فقط اجتهد أن تجعل رأسك مرفوعة". ولأن والدى واهن ضعيف ولا يقو على حملى، فأخذ يسبح مع تيار الماء لمسافة لا تقل عن كيلومترين وهو يجدف بيد واحدة. فقاطعته قائلاً: وماذا كانت مشاعرك فى هذه اللحظات العصيبة؟ قال: بل هى أجمل لحظات عمرى. قلت: كيف ذلك؟ فقال: فى حصة الدين كنت تدعونى أنت للمسيح ولكن وأنا أواجه الموت فإن المسيح هو الذى دعانى إليه. كنت فى المدرسة أرفض قبوله، فأنا حر طليق، ولكن الوضع يختلف وأنا أموت غريق. فصرخت إليه من أعماقى وسلمته بقية حياتى، واختلطت دموعى الغزيرة بمياه الترعة الكبيرة. وأخيراً وجد أبى حجراً كبيراً لنستند عليه، أما أنا فقد وجدت الحياة. ومن يومها واظبت على اجتماع الصلاة ودرس الكتاب، وضمنى الرب إلى الكنيسة حتى هذا اليوم. صمتْ سامى وصمتُ معه، وعدتُ حاملاً رسالة لكل بعيد يقول الرب فيها:
لازلت أحبك.
فما أحلى الرجوع إليه..وما أروعه لقاء فوق الأرض أو حتى تحت سطح الماء.