إن أعظم أمنية يصبو إليها الإنسان، في كل دين من الأديان، وفي أي مكان أو زمان، هي الفوز بالصفح والغفران ... ولكن ما يؤسَف له أن البشر يختلفون فيما بينهم من جهة الطريق إلى الغفران؛ فلكل فريق طريقة. وتندهش إذ ترى أن أكثرهم إخلاصاً لا يثقون في أنهم حصلوا عليه.
وهنا نسأل: هل يمكن أن الله يضع أكثر من طريقة واحدة للغفران؟ وهل يليق به - تعالى - أن يترك الإنسان في حيرته وشكِّه من جهة خطاياه؟ ولعل كل مُخلِص يجيب: كلا وألف كلا..
كيف غفر الله للأولين
هذا سؤال هام، كيف غفر الله للبشر قبلنا أجمعين.. فمثلاً:
في قصة الإنسان الأول، قصة آدم وحواء، كان من نتائج سقوطهما العري والهوان؛ فكان ستر الله لهما هو أن «صنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما»، وهذه إشارة جميلة للغفران أو الستر (الكفارة) بالذبيحة (تكوين3: 21).
ابن آدم: قدّم هابيل من غنمه، وقدّم قايين من أثمار أرضه، وقَبِلَ الله الأول، ولم يقبل الثاني (تكوين4: 3- 5).
نوح: بعد خروجه من الفلك قدّم ذبائح فرضيَ الله عنه (تكوين8: 20 ،21).
إبراهيم: بنى مذابح أربع مرات، كان أخرها عندما أراه الله كبشاً ليذبحه فدية، عوضاً عن إسحاق (تكوين22: 13).
حتى أيوب: كان يقدم ذبائح بعدد أبنائه (أيوب1: 5).
فلا غفران إلا عن طريق الذبيحة، فهل حصلت على هذا الغفران؟
أيتها الفتاة ... لا تحزني
كان لفتاة أمنية غالية، فكتبت لبريد أحد الصحف تقول:
أنا فتاة عصرية، ملابسي أنيقة على أحدث الموديلات، وأصفِّف شعري على أحدث التسريحات، وأستخدم أغلى وأرقى البرفانات. أعشق السفر والرحلات. أنا خفيفة الظل، أحب المرح وأهوى المسرح. أصدقائي كلهم من نجوم الفن والرياضة. أعود إلى منزلي في ساعة متأخرة من الليل، أو قُل في صباح اليوم التالي. وكل هذا يكلفني الكثير من المال. فمددت يدي إلى خصوصيات وأموال أمي دون أن تدري. فأصيبت بأمراض كثيرة بسبب تصرفاتي هذه.
وفي ذات ليلة، بينما كنت غارقة في لهوي وسهري، انتابني شعور غريب، وهو: ماذا أفعل، وكيف أعيش إن ماتت أمي دون أن تصفح لي؟ وبسرعة أخذت سيارتي، ورجعت إلى منزلي لكي أعتذر لها، فلم أجدها. وإذا بخبر مكتوب في قصاصة من الورق، مضمونه: إن أمي نقلوها إلى إحدى المستشفيات بسبب شلل مفاجئ. جُنّ جنوني وقتها، فأسرعت إلى المستشفى وبحثت عن غرفتها، حتى وجدتها. فدخلت وركعت عند سريرها، وأمسكت بيدها، وأنا أصرخ من أعماقي: "أماه سامحيني يا أماه ". اختلطت دموعي بقبلاتي، وضالتي المنشودة أن أسمع منها: "سامحتك يا بنتي "، فلم أسمع منها ولا كلمة واحدة. وبينما كنت أحتضن يديها بحرارة، إذا ببردوة غريبة تسري فيها، قمت لأقبِّلها في وجهها، وإذ بعينيها وقد جحظت ولسانها وقد خرج من فمها.. آه يا سيدي.. لقد ماتت أمي دون أن تغفر لي.. فماذا أنت قائلٌ لي؟
وهنا أجاب الكاتب مختصراً ومنزعجاً: أيتها الفتاه. لقد كُتب عليكِ الشقاء. فبالأمس زرعتِ شقاوة واليوم تحصدين مراراً. فلن يطيب لك منام، ولن يحلو لكِ عيش أو طعام، إلى ما شاء الله.
أصدقائي.. أ رأيتم حزن الفتاة التي لم تسمع من أمها كلمة المسامحة والغفران؟ فكم يكون الحزن الأبدي لمن يمضي دون أن يغفر له الله!!
ولكن إن كان الأستاذ قد أوصد في وجه الفتاة الباب، فإن المسيح ما زال فاتحاً قلبه لكل تائب. لهذه وأمثالها، وكل من كسر قلب أبيه أو جرح مشاعر أمه أو محبيه.
وإني لأُذكِّرك بما فعله الجنود بالمسيح عند صلبه: فرداؤه خلعوه، وعلى رأسه ضربوه، وبالأشواك كلّلوه، وعلى ظهره جلدوه، ووجهه الكريم لطموه، ولكموه، وفي فمه الخل وضعوه، وبالمسامير على الصليب سمروه. وبعد أن رفعوه، وعملهم أنهوه؛ إذ به يقول: «يا أبتاه أغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لوقا23: 34).
فما أروعك يا سيدي!.. إني أحبك. ومع ميخا أهتف قائلاً: «من هو إله مثلك، غافر الإثم وصافح عن الذنب» (ميخا7: 18). آه يا صديقي. إن المسيح وحده، هو مانح الغفران. فخذه الآن. قبل فوت الأوان.