قد يدفع الحب صاحبه إلى أفعال وأقوال يراها الآخرون غريبة. ويسجِّل لنا التاريخ البشري العديد من قصص الحب التي أتى فيها المحبون بأعمال غير مألوفة ليبرهنوا على صدق محبتهم.
قام أحدهم ببناء ضريح عظيم من المرمر يرتفع تحت سماء الهند، وتلمع قبته تحت شمسها الحارقة، وتنعكس صورته على مياه بِركة مستطيلة تمتد أمامه؛ ليجعل منه محطّاً للأنظار ومزاراً لآلاف الزوار. فعل هذا ليعبِّر عن عمق حبه لزوجته، وهكذا صار ضريحها "تاج محل" اسماً معروفاً للجميع كأحد عجائب الدنيا.
وتنازل غيره عن مُلكه من أجل محبوبته؛ فها هو أحد ملوك إنجلترا يتنازل عن عرشه لكي يستطيع الزواج بامرأة من عامة الشعب.
وغيرها من عشرات القصص التي دوَّنها التاريخ وتناقلتها الأجيال.
غير أني أريد أن أخبرك عن حب أفضل كتب عنه بولس الرسول «إن صرنا مختلين فلله ... لأن محبة المسيح تحصرنا» (2كورنثوس5: 13). لقد حاصرت محبة المسيح بولس فتملكته تماماً، فلم يستطع إلا أن يبادله حبّاً بحب، فصار في حبه كمَنْ هو مختل العقل في نظر البعض.
هل تعرف معنى هذا الحب؟!
إن معناه أن يملك المحبوب على أفكارك ومشاعرك، فلا تعود ترى غيره، ولا تحرص إلا على إسعاده. إنه يصبح في عينيك أثمن من كل الكنوز، وتغدو رغباته هي غاية مسعاك. إن هذا هو ما اختبره بولس، ومعه الآلاف ممن حاصرتهم محبة الرب يسوع؛ فعاشوا حياتهم، أو بذلوها، إخلاصاً لهذا الحب بل لهذا المُحب.
كتب أحد هؤلاء المحبين، بعد أن ترك لأجل المسيح أسرته وأهله وأمواله وموطنه وكل شيء، وقد اتهمه الناس بالجنون.. فقال:
فإذا رأنى الناس في الحال التي
قد عشت فيها ها هنا يا قدوتي
من دون ميل للورا وتلفتِ
حكموا علىَّ بأنني ذو جِنَةٍ
يا حبذا بكَ يا يسوعَ جنوني.
رفض أحد هؤلاء المحبين أن يحتفظ لنفسه بثروته الطائلة - وهو "تشارلس ستد" الذي كان لاعباً مشهوراً للكركيت بانجلترا - فقدَّمها لعمل الرب وللفقراء، وسافر هو وعروسه الشابة ماري موفات، لتوصيل رسالة الإنجيل لآكلي لحوم البشر في غينيا الجديدة. وبعد سنوات طويلة من الجهاد في الخدمة قرر أن يذهب إلى قبيلة أخرى لم يذهب إليها أحد من المرسلين قبله، لأنهم كانوا في غاية التوحش. وقد اتفق مع زوجته وهو يودِّعها أن تواصل الرسالة وتقدم إليهم الإنجيل - الذي قام بترجمته إلى لغتهم - إذا قتلوه وأكلوا لحمه. وهذا ما حدث، فقد أكلت هذه القبيلة ستاد ورفقاءه، لكن ماري واصلت رسالة زوجها، فذهبت هي وباقي زوجات المرسلين الذين قُتلوا ليقدموا الإنجيل لمن أكلوا أزواجهن.
وهذه لليان تراشر الفتاة ذات التسعة عشر ربيعاً، وقد تركت موطنها في أمريكا حيث الرفاهية والراحة وأسرتها، تلبية لدعوة الرب لأن تذهب إلى مصر لتخدمه هناك.
ويعوزني الوقت إن أخبرت عن بوليكاربوس الذي أُلقي طعاماً للنيران وهو شيخ تجاوز الثمانين من عمره، حباً في سيده وولاءً له .. وعن آلاف المؤمنين في عصور الكنيسة الأولي، قدَّموا حياتهم بفرح إخلاصاً لمن أحبهم أولاً .. صار البعض طعاماً للوحوش الضارية .. وآخرون صارت أجسادهم المشتعلة بالنيران كأعمدة لإنارة الشوارع، آخرون استُعملت معهم آلات تعذيب وحشية تُمزِق الجسد ببطء.
قدَّم هؤلاء جميعاً حياتهم وماتوا طوعاً واختياراً، ليُظهِروا بذلك محبتهم للرب يسوع.. ولعلهم قد حُكم عليهم جميعاً ممن حولهم أنهم مختلي العقل.. فما أحلاه من اختلال..
وماذا عنك أنت؟! هل تحب الرب بحق؟! دعني أقول لك:
(1) افعل شيئاً:
ليس الحب فقط هو فيض من المشاعر، ولا سيل من الكلمات. ولا تكفي أصوات الترنيم العالية ولا اجتماعات الصلاة الملتهبة لتقول له: «أحبك»، دون أن تفعل شيئاً تثبت به ما تقول. قال المسيح «إن أحبني أحد يحفظ كلامي» (يوحنا14:23)، وقال رسول المحبة يوحنا «يا أولادي لنحب لا بالكلام واللسان بل بالعمل والحق »(1يوحنا3: 18). فهل تفعل شيئاً تُعبِّر به عن محبتك. فتِّش كتابك المقدس وابحث عن وصايا الرب وانظر أيهن أطعت وأيهن لم تُطِع. ولتُظهِر للرب صدق مشاعرك بأن تسلِّم له إرادتك في أعمال طاعة محددة.
(2) قَدِّم شيئاً:
كيف تُحب؟! قدَّمت مريم للرب أغلى ما تملك.. قارورة طيب كثير الثمن (مرقس14: 3). وكذا سكبت المرأة الخاطئة دموعها على قدمي السيد ومسحت قدميه بشعر رأسها (لوقا7: 38). وقدَّمت أرملة فقيرة كل ما عندها وهو فلسان لم تكن تملك غيرهما(لوقا21: 2).
لقد قدمن جميعهن من فيض محبتهن، فنلن رضا واستحسان من أحببن. دافع الرب عن الأولي أمام من انتقدوها: إنها عملت بي عملاً حسناً.. وشهد عن الأخرى أنها قد أحبت كثيراً.. وقال عن الأخيرة إنها قد أعطت أكثر من الجميع.
فماذا قدّمت أنت؟
* أرَقتَ دَمَكَ الثمينَ مِنْ أجلي فِدىً لكي أنجو أنا من الهولِ وأنا ماذا يا تُري فعلتُ مِنْ أجلِك؟!