كثيرا ما ندّعي المعرفة، وأننا لسنا أقل من غيرنا في ذلك، وهذا ما وصل إليه أيوب في برِّه الذاتي، حتى أنه قال لأصحابه «غير أنه لي فهم مثلكم، لست أنا دونكم»، «ما تعرفونه عرفته أنا أيضاً. لست دونكم» (أيوب12: 3؛ 13: 2). وقد قاده ذلك إلى الانتفاخ والتكلم بأقوال جارحة، حتى على الله.
لكننا يا أعزائي، في الحقيقة، لا نعرف شيئاً من ذواتنا، فإن المعرفة الحقيقية هي المعرفة التي مصدرها هو الله نفسه، والتي تقودنا إلى الاتضاع وتبرير الله في كل شيء وفي كل معاملاته معنا. وهذا ما جعل الله العظيم يسال أيوب المسكين أسئلة كثيرة عن أموره العظيمة وأسراره في خليقته ومعاملاته معها وعنايته الفائقة بها (ص38-41) «اسأل البهائم فتُعلِّمك، وطيور السماء فتخبرك، أو كلِّم الأرض فتعلِّمك ويحدِّثك سمك البحر. من لا يعلم من كل هؤلاء أن يد الرب صنعت هذا؟» (12: 7-9).
وحين استعرض الله هذه الأسئلة المحيرة أمام أيوب، لم يستطع إلا أن يقول «ها أنا حقير فماذا أجاوبك؟ وضعت يدي علي فمي. مرة تكلمت فلا أجيب، ومرتين فلا أزيد» (40: 4). ويقول أيوب أيضاً «ولكني قد نطقت بما لم أفهم، بعجائب فوقي لم أعرفها... أسألك فتعلمني.. لذلك أرفض(نفسي) وأندم في التراب والرماد» (42: 3-6).
وفي بابنا هذا سنستعرض بعض هذه الأسئلة، وما حوته من معانٍ غزيرة روحية ودقيقة علمياً. فالآن هيا بنا إلى أولى حلقات هذه السلسلة.
الأرض وباطنها أول الأسئلة التي سألها الله لأيوب : «أين كنت حين أسّست الأرض؟ أخبر إن كان عندك فهم» (38: 4).
وكأن الله يقول لأيوب: ما هي حياتك وكم عمرك؟
وهل كنت معي حين أسّست الأرض؟ أو هل كنت لي مشيراً آنذاك؟ يا أيوب أنت من أمس ولا تعلم... قل لي على أي شيء تستقر هذه الأرض؟ على كم من القواعد الخرسانية شُيّدت؟ وعلي أي شيء علقت هذه الأرض التي تبلغ كتلتها نحو5880 × 10أس 18 طناً، قل لي يا أيوب لأني أسألك فعلمني؟! من أسسها ومن يحملها؟
لقد ذهب الناس الذين يدّعون المعرفة ويتشدقون بها إلي حالة تدل علي منتهى غبائهم، فالإغريق اعتقدوا أن الإله أطلس هو الذي يحمل الأرض علي عنقه وكتفه وهو مطأطئ الرأس! أما الهندوس القدماء فكانوا يعتقدون أن الأرض محمولة على ظهر فيل كبير، وهذا الفيل يقف على ظهر سلحفاة، وهذه السلحفاة بدورها تعوم في بحر لا نهائي! والبعض الآخر اعتقدوا أن الأرض محمولة علي قرن ثور! منتهى السخافة والغباء!
ولكن دعونا نفتِّش كتاب الكتب، الكتاب المقدس، في أقدم سفر فيه، وهو سفر أيوب، وننحني أمامه بكل خشوع، فنسمعه يجيبنا منتصراً على كل سخافات هؤلاء المدعين.
فنرى الكتاب يعلن لنا أن الله كلي العظمة والقدرة والحكمة «يمّد الشمال على الخلاء، ويعلِّق الأرض على لا شيء» (أيوب26: 7)، من قِدَمٍ أسس الأرض، وهي معلّقة على لا شيء... ومن يحملها؟ وبأي شيء تُحمَل؟ إنه الحامل لكل الأشياء بكلمة قدرته (عبرانيين1: 3).
كذا وجّه الله نظر أيوب إلي الكم الهائل من الكنوز والنفائس الثمينة التي جعلها الله في باطن الأرض، من ذهب وفضة وحجارة كريمة ومرمر وجرانيت (28: 1-6)؛ وكأن به يقول له: أخبرني يا أيوب هل تعلم عنها شيئاً؟ كيف تكوَّنَت هذه؟ وكم عددها؟ وفي أي مكان وضعتها؟ وماذا فعلت أنا لكي ترى بعضاً منها ويمكنك استغلالها؟ إني لكي أُظهر لك الضئيل من هذه الكنوز رفعت إلى الطبقات العليا منها بعضاً مما كان مدفوناً في باطنها، وجعلتها مدورة بمعاملاتي الخاصة، وبهذه المعاملات، التي وإن كانت تبدو لك أنها قاسية، لكنك بواستطها استطعت أن تكتشف الثمين والنفيس. وهذه هي معاملاتي الخاصة التي أجريها مع البشر، ولا سيما مع أعزائي الأبرار والمستقيمين أمثالك يا أيوب، فلا تنزعج من معاملاتي معك وتتهمني بالقسوة وتفرِّط عليَّ بشفتيك، فإنك اتهمتني بأني عدو لك وإني أطاردك وأضع رجليك في المقطرة، لكن ثق يا أيوب إن معاملاتي معك لتكتشف ويكتشف الآخرون ما وضعته فيك من نفائس ثمينة.
عزيزي الشاب، إنه يحبّك، وكل معاملاته لخيرك، فلا ترتبك من معاملاته معك. بل ضع كل ثقتك فيه، ولا تنسَ أن معاملات الله لا تنتهي إلا إلى الخير لك.
كم من الشباب، كيوسف الشاب العظيم وغيره من الشباب على مرّ الزمن، كانت معاملات الرب معهم نقطة تحوّل عظيمة في حياتهم الروحية، وبعد العصيان والعناد والضعف والهزيمة، أصبحوا آلات عظيمة مطيعة في يد الرب، فاستثمروا كل حياتهم للرب، ومجدوا الله بشهادتهم العظيمة له.