نستكمل في عددنا هذا الحديث عن ذلك البطل العظيم، وكنا قد توقفنا عند بداية جهاده ضد آريوس وبدعته .
مجمع نيقية
وصل الأمر إلى الإمبراطور قسطنطين الذي كان قد اعتنق المسيحية ولكنه كان حديث العهد بها ويجهل تعليم الكتاب المقدس، فاعتبر الأمر مجرد مناقشات فلسفية لاتستحق كل هذه الخلافات، إلا أنه، لأجل لَمّ الشمل، دون أن تكون المشكلة ذاتها لها أي وزن عنده. رأى عقد مجمعًا عامًا من جميع أساقفة العالم ليصدروا حكمهم في هذه المسألة .
وفي مدينة نيقية اجتمع 318 أسقفًا ممثلين لكنائس العالم أجمع وبحضور الإمبراطور قسطنطين. دارت المناقشات لمدة 25 يومًا لصياغة قانون للإيمان يكون تلخيصًا للتعاليم المسيحية، ويوافق الجميع عليه .
وفيما يختص بلاهوت المسيح طلب أثناسيوس (الذي كان شماسًا في وسط الأساقفة) أن تُضاف كلمة (Homo-ousion) والتي تعني واحدًا في الجوهر أو ذا جوهر واحد للتعبير عن الحقيقة بطريقة موجزة، ولكن آريوس والشرذمة التي معه عارضوا استخدام هذه اللفظة واقترحوا استخدام كلمة (homi-ousion) أي مُشابه في الجوهر. والفرق بين الكلمتين باليونانية هو حرف واحد (يونا) ولكن ما أعظم الفرق بين الكلمتين في المعنى! إحترس عزيزي، قد يساومك الشيطان في أمر بسيط جدًا في الظاهر راغبًا من ورائه أن يسلبك أعظم الحقائق .
وبقدر معارضة الذين انساقوا وراء آريوس، بقدر ماظهر للأغلبية أن تلك هي العبارة المقصودة بالذات للتمييز بين مَنْ يؤمن بأن المسيح هو الله ومَنْ يعتقد بما هو خلاف ذلك، فوافق المجمع على اقتراح أثناسيوس بأغلبية هائلة حتى أنه عندما تم توقيع الوثيقة وقع عليها جميع الحاضرين عدا اثنين فقط. وبعد أن حكمت الكنيسة بهرطقة آريوس صدر قرار بنفى آريوس واعتباره هرطوقًا وحرق كتبه - وكان عمر أثناسيوس آنذاك 52 سنة.
أثناسيوس بطريركًا للإسكندرية
رقد الإسكندر بطريرك الإسكندرية وكان قد أوصى قبل رقاده بأن يأخذ مكانه في الخدمة أثناسيوس الذي كان بطلًا دافع بصلابة عن الإيمان القويم .
ولكن الأمر لم ينتهِ عند ذاك إذ استطاع آريوس بدهائه وتملقه أن يجتذب الإمبراطور إلى صفه بمساعدة بعض المؤيدين له والمخدوعين بتعليمه، واستطاعوا أن يشوا بأثناسيوس لدى الإمبراطور ولفقوا له التهمة بعد الآخرى فنُفي إلى تريف سنة 336 وفي نفس السنة مات آريوس بمرض الدوسنتاريا حتى أنه وُجد ميتًا مُلقى على الأرض وأحشاؤه خارجه .
لكن بموت آريوس لم تندثر بدعته فورًا واستمر اضطهاد أتباعه لأثناسيوس حتى أنه نُفي أربع مرات آُخَر. وليختبئ من بطشهم إضطر للإلتجاء للبراري، بل اختبأ مرة في مقبرة أبيه بالإسكندرية، لكنه احتمل كل هذا ببطولة نادرة متمسكًا بالحق وتعاليم الكتاب النقية مُدافعًا عنها بكل قوته، وبالإضافة لذلك كتب كثير من المقالات التعليمية والرعوية. ثم رقد في الرب عام373 بعد أن أكمل جهاده وحفظ الإيمان (2تى 4: 6).
ولايزال أثناسيوس حتى يومنا هذا محل تقدير جميع المؤمنين وفوق الكل تقدير سيده الأمين الذي يحفظ له جهاده وسيكافئه عند الوقوف أمام كرسيه.