الهدوء والسلام والسكينة، المحبة والبهجة والطمأنينة. هكذا كانت تمر الأيام، في نعومتها ورقتها، في جمالها وروعتها. بل وكانت تعزف أجمل الألحان رغم كل مصاعب الزمان. فالحاضر يعانق الماضي، ويسير به واثقًا، نحو مستقبل مشرق. وكم كانت الحياة سخية وكريمة، فقد أوصاها ربها، فمنح أبًا يرأف، وأمًّا تحنو، وأختًا جميلة كالشمعة في عطائها.. وفجأة، ودون مقدمات، خطف المنون الأب والأم، والأخت الحنون.
أصدقائي، نحو الهدف ترحب ببطل هذه القصة المثيرة، فلنتعرف عليه:
* اسمي رائف مراد. ثانوية عامة. أعيش في مدينة نجع حمادي بجنوب مصر.
- نحن نهنئك مرتين، الأولى لنجاتك من الحادث الأليم، والثانية لشفائك من توابعه النفسية. واعذرنا إن سببنا لك ألمًا بتذكر الماضي. فهل تخبرنا عن أسرتك؟ وعن ظروف الحادث؟
* والدي كان يعمل موجهًا للفيزياء، ووالدتي ناظرة مَدرسة، وأختي الوحيدة رانيا طالبة بكلية التجارة، وأخواي وائل مدرس وولاء صيدلي، وأنا كنت في المدرسة الإعدادية. وكانت الأمور تسير على ما يرام، حتى غرقت نصف أسرتنا. كنت مع بابا وماما وأختي، في زيارة لبيت العائلة، في إحدى قرى أسيوط، وفي أثناء رجوعنا فجرًا إلى نجع حمادي، كان أبي يقود السيارة، وفوجئنا باختلال عجلة القيادة في يده، فانحرفت السيارة إلى أقصى اليمين حيث النيل، ثم نحو اليسار حيث ترعة كبيرة، وبعدها انقلبت عدة مرات، انتهت بسقوطها معتدلة في الترعة. حاول أبي فتح الباب فلم يتمكن، لأن المياه دخلت إلى السيارة، فخرج بالجهد من الشباك. وبصعوبة بالغة أخرجني، رغم أني كنت في المقعد الخلفي، وفي المكان الأصعب والأبعد. حملني أبي إلى الشاطئ ثم قال لي: "رائف ولدي، انتظرني هنا حتى أنقذ والدتك وأختك". وانتظرت عودته ساعات وساعات، ولكنه لم يرجع. وقد عرفت من بعض الصيادين الذين تصادف وجودهم في المكان أن أبي عندما دخل السيارة انقلبت به في قلب الترعة حيث توجد دوامات شديدة، ولم تفلح محاولاتهم في الإنقاذ.
- وماذا حدث بعد ذلك؟
* انتظرت عودتهم حتى المساء، فلم يعد أحد، حتى جاءت فرق الإنقاذ وعثرت على جثثهم، في مكان بعيد عن الحادث.
- لا شك أنك كنت مضطربًا وتحتاج للرثاء في ذلك الوقت بالذات؟
* الشيء المدهش أني كنت طبيعيًا جدًا، لعدة أسابيع. ثم بدأت أشعر بالحزن شيئًا فشيئًا لفراقهم.
- أين الرب في هذا الحادث؟
* كان معي، ويده هي التي أخرجتني، رغم أني كنت الأقل أملاً في النجاة.. أما والدي ووالدتي وأختي فانتهت رسالتهم في الحياة، لحكمة إلهية.
- كيف خرجت من الأزمة بسلام؟
* هناك صديق وفي ساعدني، اسمه: الكتاب المقدس. بالإضافة إلى إخوتي وأقاربي، ولا أنسى دور الإخوة الذين لم يتركوني.
-ما شعورك عندما كنت تسمع وائل (الأخ الأكبر) وهو يصلي قائلاً: يا رب إن داود في يومه قال «إن أبي وأمي قد تركاني»، أما أنا فأبي وأمي وأختي قد تركوني.
* لكن الرب لم يتركنا، بل تحنن علينا، ووقف معنا وقوّانا.
- هل من دروس تعلمتها من الحادث؟
* الدروس كثيرة. فالحادث قصّر عليَّ فترة الطفولة، والدلع، وانتقلت بسرعة إلى مرحلة الجد والرجولة. وتعلمت أن الحياة قصيرة جدًا.
- هل تذكر ما كان يدور بينكم من أحاديث قبل الحادث مباشرة؟
* لو كان هناك صندوق أسود في سيارتنا لكنت تسمع ترنيمة كانت تقول:
إن كانت الريح شديدة أنا واثق انك تبكمها
في الحديد لو دخلت نفسي إلى رحبك انت تخرجها
وإن شفت نهايتي بعيني ومليش قوة اني أتكلم
تحميني وتمد لي إيدك تعمل فيَّ لما باسِّلم
صادق يا ربي في مواعيدك
- ماذا تريد أن تقول لمن يجتازون في ظروف شبيهة بظروفك؟
* أقول لكل متألم فقد حبيب أو قريب: إن الرب حكيم، ومش مطلوب مننا أن نفهم سرائر الله، فنحن نشكر على ما يعلنه لنا، ونشكره أكثر على ما يخفيه عنا.
- سؤال أخير. ما شعورك وأنت تبحث عن مدرس للفيزياء بعد أن كان الوالد من أكفأهم.
* هذه مشيئة الله، وأنا قبلتها بسرور، وهناك أساتذة أكْفاء أكن لهم كل الاحترام.
- رائف.. لقد انتزعت الدموع من عينيَّ، وجعلتني أصدق أن الذين يجتازون في التجارب لَهم محظوظون أكثر من غيرهم، شكرًا جزيلاً. مع تمنياتنا لك بمزيد من النجاحات الروحية والدراسية..
أصدقاءنا الأعزاء:
ليس كل من يهتف أعظم من منتصرين هو منتصر، وليس كل من يلوح بيده في فرصة الترنيم غالبين غالبين هو غالب.. إنما البطولة الحقيقية والغلبة الحقيقية هي في الخضوع بشكر للمشيئة الإلهية. فليتنا نشكر في كل حين وعلى كل شيء، فالتجارب تصنع الأبطال.