«الرب راعيّ ... هو يعتني بكم» (مزمور23: 1 ؛ بطرس الأولى5: 7)
سافر الأب إلى بلد بعيدة. وترك زوجته وطفلته الصغيرة، البالغة من العمر ثلاث سنوات، وحيدين. وشعرت الطفلة بفراق والدها فسألت أمها قائلة: “أين بابا يا ماما؟”.
أجابتها أمها: “إن عمله اضطره أن يغيب بعض الوقت، وسيعود قريباً يا بنتي”.
فعادت الطفلة تسأل: “ومن الذي سيرعاني ويعتني بي في غياب بابا؟”.
أجابتها أمها لتطمئنها بالقول: “لا تخافي يا حبيبتي، أنا سأرعاكِ وسأعتني بكِ”.
وصمتت الفتاة قليلاً، ولكن ملامح الحيرة وتعبيرات الارتباك زادت على وجهها، وتساقطت الدموع من عينيها، وعادت تسأل: “ومن الذي سيرعاكِ ويعتني بكِ أنتِ يا أمي؟”.
وعند هذا تنبهت الأم، وكانت سيدة مؤمنة، وقالت: “نعم يا بنتي، إن الرب هو الذي سيرعى ويعتني بكِ وبي أنا أيضاً، لأنه موجود معنا دائماً ولا يغيب عنا أبداً”.
وهنا أحست الطفلة بالاطمئنان والرضا، وراحت تمسك بلعبتها في سرور وسلام.
أيها الأحباء.. توجد بيوت كثيرة سافر عنها الأب في رحلة طويلة، فأحست العائلة بالفراغ الكبير الذي تركه، ولكن الذين اختبروا الرب يعرفون تماماً أنه معهم دائماً، وأنه لا يمكن أن يتركهم أو يغيب عنهم لحظة واحدة، وأن سلامه الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبهم وأفكارهم فيه؛ لذا فهم يعيشون في رضى وشكر وتسليم، متمتعين بعنايته الدائمة لهم.
أ لم يكن هذا هو اختبار داود في طفولته وشبابه المبكر؛ إذ وجد نفسه في البرية وحيداً مع غنيمات أبيه، يعاني ليس فقط من الحرمان من رعاية وعناية أبيه، بل الأكثر والأقسى من ذلك، يعاني من عدم مبالاة أبيه وإخوته به؟ أ لم يكونوا يعلمون أن الأُسود والدببة تجول وتزأر في تلك البرية؟! وكيف يتركون صبياً مثل هذا بدون حماية أو وقاية في البرية؟!
وحتى عندما جاء صموئيل النبي ليُقدِّم ذبيحة للرب، ودُعىَّ مع يسى البتلحمي بنوه جميعاً لكي يشاركوا في الوليمة، أتوا جميعاً ماعدا ذلك الغلام داود؛ فما اتجه إليه فكر واحد منهم جميعاً، مع أنه كفتى صغير كان الأجدر بعطفهم وسؤالهم. فهل تراه يخور لأنهم أهملوه؟ وهل تجده منكسر الخاطر أو مكتئباً نتيجة إغفالهم له؟ وهل تراه أغفل أمر شاة معهوداً إليه أمر رعايتها مادام أهله أغفلوه؟ كلا على الإطلاق، بل كانت ظروف وحدته وحرمانه في البرية هي مدرسته التي فيها تعلَّم دروسه الأولى: درس التكريس في طريق الواجب، ودرس الثقة في الرب في ساعة الخطر. لقد تعلَّم بالإيمان أن يتكل على قوة الله وأن يكتفي برعاية الرب له.
لقد كانت حياة داود الأولى مليئة بالتغييرات التي كان عليه أن يجتازها وحيداً؛ فمن حظائر الغنم إلى بلاط شاول، ثم إلى محلة القتال. لكن الحياة، على رغم هذه التقلبات، لم تكن تثير فيه قلقاً أو مخاوف. ورغم الأخطار والمصاعب كان لسان حاله «الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء». كان هجوم الأسد والدب فجائياً، إلا أن داود كان مُستعِداً له «لا أخاف شرّاً لأنك أنت معي». وعندما كان جميع رجال إسرائيل في رعب وخوف من جليات، كان هو ثابتاً ورابط الجأش فقال «الرب الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب هو ينقذني من يد هذا الفلسطيني»، وقال للشعب «لا يسقط قلب أحد بسببه»، وهكذا سعى لتعزية الآخرين بالتعزية التي تعزى بها من الله. أو ليس هذا حسب قلب الرب الذي هو على استعداد في كل الأوقات لتشجيع الخائر والخائف وضعيف القلب؟
أيها الأحباء ... إن الرب يسوع المسيح هو الراعي الذي سلمتنا يد الله الآب إليه. وهو المسئول - طواعية - أمام الآب عن حفظ كل عضو من أعضاء قطيعه الصغير.
وما أروعه راعٍ؛ كُلّي القوة والمحبة، الذي لا تستطيع كثرة المياه أن تطفئ نيران محبته، والذي لا يستطيع عدو - كائناً مَنْ كان - أن يقهر موته أو يتغلب على قدرته وسلطانه. أفلا يحق لنا أن نترنم بنغمة عالية جداً «الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء» متمتعين بالوعد الصادق «ملقين كل همكم عليه لأنه هو يعتني بكم»؟ وكيف نحتاج إلى شيء والرب يسوع نفسه يرعانا؟ هذا مستحيل. فيا ليتنا نتكِل عليه بكل هدوء، وتستقر في نفوسنا الراحة العميقة النابعة من الثقة مهما عصفت الريح وعلا الموج.