تناولنا في العدد السابق أن الكتاب فريد في بقائه رغم الزمن، ونستكمل في هذا العدد الحديث عن بقاء الكتاب، فنتكلم عن
بقاء الكتاب رغم الاضطهاد
لم يَلقَ كتاب آخر مثلما لاقى الكتاب المقدس من بغض البشر له وهجوم الشيطان عليه، فقد دأب الكثيرون، على مر التاريخ، على محاولة منعه وإحراقه؛ ولكنه بقي خلال الاضطهادات العنيفة منذأباطرة الرومان حتى الحكم الشيوعي في العصر الحاضر.
تفكَّر في كيف تعرَّض الكتاب المقدس لكل أشكال المصائب والكوارث والسبي والكراهية من البشر على مدى تاريخه الطويل؛ فلقد تعرض أولاً لكل ما تعرض له شعب الله من محن، ونُقل إلى خارج بيته، إلى بابل لمدة 70 سنة. ثم تعرض لموجات من الكراهية من كثيرين، والإهمال من آخرين، وللحريق أحياناً أخرى.
ثم من بعد المسيح، فقد اجتاز في ثلاثة قرون عصيبة، تعرض فيها للاضطهاد الرسمي من الإمبراطورية الرومانية، إلى الدرجة التي كان فيها يُطرَح من يكون بحوزته هذا الكتاب للوحوش المفترسة. ثم تفكر فيما أصابه خلال القرون من السابع إلى التاسع، عندما زادت البدع والخرافات في كل مكان، وما تعرض له في القرنين العاشر والحادي عشر، حيث كان القليلون - حتى من الأمراء - هم الذين يعرفون القراءة، ثم في القـرون من الثاني إلى الرابع عشر، حيث كان استخدام لغة الشعب لتفهيم الكتاب المقدس يعرِّض صاحب هذه الفعلة إلى عقوبة الموت. نعم، عندما نفكر في كل هذا فإننا سندرك كيف أن عين الله الساهرة هي التي حفظت هذا الكتاب.
وقصة صمود الكتاب المقدس، قصة طويلة، وهى تذكرنا بما قاله أحد المهندسين الإنجليز الذي بنى سوراً بارتفاع ثلاثة أقدام، وسُمك 4 أقدام. ولما سُئل: “أ تبنى ارتفاع السور أصغر من سمكه؟”، أجاب: “لكي يستحيل أن يُقلب. أما إذا قُلِب، فإنه يصبح أعلى مما كان”. هكذا تماماً هذا الكتاب العجيب، لا تطوله آلات العدو الشريرة، وإذا أراد لسان أن يحكم على الكتاب، فإنه إنما يحكم الكتاب عليه.
قال الملحد الفرنسي المشهور فولتير (توفي عام 1778) إنه بعد مائة سنة من وقته سيكون الكتاب المقدس قد انمّحى وصار تاريخاً. ولكن ماذا حدث؟ لقد صار فولتير في ذمة التاريخ، وزاد توزيع الكتاب المقدس في كل جزء من العالم يحمل البركة أينما وجِد. ولم تمضِ خمسون سنة على وفاة فولتير حتى استعملت جمعية جنيف للكتاب المقدس مطبعته ومنزله لنشر الكتاب المقدس!
في عام 303 م أصدر دقلديانوس أمراً بالقضاء على المسيحية وكتابها المقدس، وذلك بإحراق الكنائس، والكتب المقدسة، وحرمان كل مسيحي من الحقوق المدنية. ولكن الامبراطور الذي خلفه على العرش كان قسطنطين الذي أوصى يوسابيوس بنسخ خمسين نسخة من الكتاب المقدس على نفقة الحكومة.
إن الكتاب فريد في بقائه، لا يسنده في هذا البقاء إلا ما جاء فيه والإعلان الذي جاء به، لأنه من عند الله.
فريد في صموده أمام النقد ومحاولات التشكيك
حاول الملحدون على مدى ثمانية عشر قرناً أن يلقوا بالكتاب جانباً، لكنه بقي كصخرة صامدة؛ زاد توزيعه، وزاد حب الناس له، لم يؤثر فيه نقد النقاد كما لا يؤثر خبط مطرقة صغيرة في بناء الهرم.
عندما حاول ملك فرنسي أن يضطهد المسيحيين في دولته، قال له محارب قديم من رجال الدولة: “يا سيدي، إن كنيسة اللّه هي السندان الذي أبلى كل المطارق”. ولقد حاولت مطارق كثيرة إيذاء الكتاب المقدس، فبليت هي وبقي هو! ولو لم يكن هذا هو كتاب الله لدمّره البشر منذ زمن طويل. لقد حاول ملوك وبابوات وأباطرة وكهنة، وأمراء وحكام أن يمدوا أيديهم إليه بالأذى، فماتوا هم، وبقي هو حياً. لقد أعلن البعض، آلاف المرات، موت الكتاب، ورتبوا جنازته، لكن الكتاب ظل حيّاً، رغم أنه لم يحدث أن كتاباً آخر لقي كل هذه الطعنات. فأي كتاب من كتب الفلسفة أو المذكرات لقي ما لقيه الكتاب المقدس من تجريح على كل عبارة فيه؟ ولكن الكتاب بقي محبوباً من الملايين، يقرأه ويدرسه الملايين، لأنه يملأ احتياجات الملايين.
وقد جاءت موجة ما سمي بالنقد العالي للكتاب. فيه قالوا مثلاً إن موسى لم يكتب الاسفار الخمسة، لأن الكتابة لم تكن معروفة زمن موسى، فلا بد أن الكاتب جاء بعد زمن موسى. ولكن العلم اكتشف شريعة حمورابي، الذي كان سابقاً لموسى، وسابقاً لإبراهيم (2000ق.م)، فكانت الكتابة قبل موسى بثلاثة قرون على الأقل. ومضى هؤلاء النقاد يقولون إن أسوار أريحا لم تسقط في مكانها كما ورد في يشوع 6:20. ولكن الحفريات برهنت صدق القصة الكتابية. وغير ذلك الكثير من النقد الذي ثبت بطلان ادعائه وما زال العلماء يدرسون النقد العالي، ولكن باعتبار أنه نظرية خاطئة.
وقد قال العالم اليهودي نلسون جليك (يعتبر أحد أعظم ثلاثة علماء للحفريات): “لقد اتهموني أني أعلّم بالوحي الحرفي الكامل للكتب المقدسة، وأحب أن أقول إنني لم أقل هذا. ولكني لم أجد في كل بحوثي في الحفريات ما يناقض أي عبارة من كلمة الله”.
لقد وقف الكتاب وقفة فريدة في وجه النقّاد، لم يثبت كتاب آخر غيره في مثل هذا الموقف كما ثبت هو.
وكل من يفتش عن الحق، عليه أن يدرس هذا الكتاب ليجده فوق كل نقد!