قصة تغييري كانت الشمس حامية في منتصف النهار، في أحد أيام يوليو الحارة في عام1880م، عندما وَصَلت إلى البيت الذي أقصده. أخذت أطرق باب الأخ/ س. و. بقرية (...) المجاورة لقريتنا.
فتح الشيخ المؤمن بابه وهتف بي: أهلاً يا بُني، تفضل بالدخول. دخلت، وأخذت أتصنّع الخجل والارتباك، وقلت له بصوت خفيض: إنني في الحقيقة في غاية الإحراج يا عمي، فأنا في شديد الاحتياج إلى مبلغ من المال، فليتك تقرضني إياه.
# وكم هو المبلغ يا بُني؟
* خمسة جنيهات يا عمي.
كان هذا المبلغ كثيراً في ذلك الوقت. أطَرق الرجل قليلاً، ثم رفع عينيه وثبَّتهما عليَّ، حتى إنني قررت الخروج، فقد شعرت أن حيلتي قد انكشفت أمامه. غير أنه قام فجأة، وأحضر المبلغ المطلوب، ثم رَبَتَ على كتفي وهو يقول: ها هو المال يا بني، غير أنه ينقصك شيء أهم من المال، ألا وهو السلام مع الله. حتى متى تبقى في خطاياك؟ لقد صلّى أبوك من أجلك طوال حياته حتى يوم وفاته. تذكر دموعه من أجلك.
قاطعته بسرعة وبغير مبالاة: نعم يا سيدي. سأفعل. سأفعل بإذن الله.
أخذت النقود ومضيت وأنا أتعجب في نفسي من بساطة هذا الرجل، فمن أدراه أنني سأعيد له نقوده؟ وكنت قد بيَّت النية فعلاً على عدم إعادة ما اقترضته.
اشتريت رطلاً من اللحم، ووضعته في منديل كبير، ووضعت معه باقي النقود، ثم أخذت طريقي إلى قريتي. غير أن الشمس العمودية كانت غير مُحتَمَلة، فجلست تحت شجرة وارفة الظلال، ووضعت المنديل بما فيه بجانبي. ثم أخذت أفكر في أموري، وبدأ روح الله يتعامل معي بشدة، ويبدو أن كل صلوات أبي قد استُجيبت أو ظهرت استجابتها في تلك اللحظة.
شعرت برداءتي الشديدة؛ فها أنا خدعت الرجل وسرقت نقوده، وليست هذه الفعلة إلاّ عينة من حياتي التي امتلأت زيفاً وضلالاً وكذباً وافتراءً. «حتى متى تبقى في خطاياك؟». نعم حتى متى أبقى في خطاياي؟ وشعرت بأنني أريد أن أبكي، فقد تذكرت دموع أبي وصلاته الحارة من أجلي.
بينما أنا في حالي هذه، فوجئت بغراب أسود كبير يهبط فجأة ويخطف المنديل الموضوع بجواري، ويحلِّق إلى أعلى بعيداً بعيداً. أفقت من ذهولي، وشعرت بوخز الضمير أثقل جداً مما أحتمل، فها الله ينظر فعلتي الشنعاء، ويرفضها ويدينها بشدة، فليست حادثة الغراب عارضة أو صدفة، إنما هي إعلان من الله بإدانة فعلتي. شعرت أن الدنيا كلها تغلق أبوابها في وجهي، واليأس القاتل يدحرني. ثم خطر على بالي أنني لو عُدت إلى الرجل واعترفت له بفعلتي الخسيسة، لَخفَّف ذلك من قسوة الكآبة التي اكتنفتني. قمت من مكاني وعدت إلى الرجل الشيخ، وطرقت بابه ثانية.
# أهلاً يا بني. تفضل
* لا يا سيدي إنني فقط أريد أن أعترف لك بذنبي.
قال باندهاش: أي ذنب؟!
في خجل وانكسار قلب، رويت له قصتي، وأنا لا أعرف ماذا سيكون موقفه مني. غير أنني فوجئت به ينحني ويقبّلني ويربت على كتفي وهو يقول: تعال. تعال وانظر.
دخلت وراءه، غير أنني كدت أُصعق عجباً، فقد وجدت المنديل وبه اللحم والنقود.
# ما هذا؟ ما هذا الذي أرى؟ قال: ألا ترى؟ إنه المنديل وبه اللحم والنقود، فمنذ ساعة تقريباً سمعت صوت ارتطام، ولما خرجت لأنظر وجدت هذا المنديل.
لم أستطع أن أمنع نفسي من البكاء. وفي دار ذلك الرجل التقي جثونا سوياً على البساط، وسلّمت حياتي بالتمام للرب الذي فتح ذراعيه وخلَّصني من جميع شروري، ومنحني سلاماً حاضراً وأبدياً. له كل المجد.