وصل الشاب ليجد صديقه الشيخ، كعادته، قد حضر قبيل موعدهما. وبدأ الشيخ الحديث:
أهلاً صاحبي.. لقد طال الزمن منذ التقينا آخر مرة، وبالحق فإني افتقدت جلساتك.
بل أنا الذي يشدني الشوق لاستكمال حديثنا.
وهل تذكر إلى أين وصلنا؟ لقد انتهينا، في حديثنا عن اختيار الصديق، عند مبدإ أساسي، وهو ضرورة أن يكون صديق المؤمن مؤمناً مثله، وأن يكون لهما نفس الميول الروحية من حيث محبة أمور الله والرغبة في العيش له.
أحسبك مقتنعاً بذلك الآن.
لقد أَفَضّتَ في إثبات هذا الأمر من خلال الكتاب المقدس، وليس عندي مستند أقنع به نظيره، لذا فإني مقتنع تماماً.
حسناً تفعل إذ تجعل كلمة الله هي مرجعك الأساسي، ومنبع حُكمك على الأشياء.
إذاً، دعنا نُكمل حديثنا عن اختيار الصديق. لقد وعدتني ببعض النصائح العملية في هذا الصدد، وأذنيَّ تنتظران سماع ذلك الآن.
عند تقييمك لصديق، ابعد عن النظرة السطحية، وقِس الأمور بمقاييس الله.
ماذا تقصد؟
أقصد ألا يكون غرضك أو مطلبك هو الأمور التي يهتم بها الكثيرون من حولنا، مثل خفة الظل أو حسن المظهر أو الوضع الاجتماعي أو الإمكانيات المادية أو الشهرة. فكلها أمور لا تهم الله بالمقام الأول، وإن كان من الممكن أن يعطيها للبعض.
وما العيب إذاً في مثل هذه الأمور؟
الصداقة قصة طويلة الأجل، قد تمتد إلى العمر كله، وهي من الثوابت في حياة الإنسان؛ لذا لا يمكن أن نبنيها على أمور سريعة التحول والتبدل كهذه التي ذكرتها لك، فكلها لا تدوم: فمن أعتبره خفيف الظل لن يكون كذلك بالنسبة لي إذا استخدم مرحه في السخرية مني أمام آخرين، وحُسن المظهر هو أمر نسبي قد أُعجب به اليوم وفي الغد يتغير الأمر مع تغير مزاجي، وغني عن البيان أن الإمكانيات المادية قابلة للزوال بأسرع مما يتوقع أي إنسان وكل ما يحدث حولنا يؤكد ذلك، وهكذا باقي الأمور.
فما هي المقاييس التي أقيس بها إذاً؟
اهتم بأمور مثل نضوجه الروحي وأشواقه للسير في ذات الطريق الذي اخترته أنت للسير وراء الرب. واختر صديقاً يتمتع بقدر كافٍ من الحكمة، ويتميز بحسن الحكم على الأمور ومنطقية التفكير وعدم التسرع.
ولِم أهتم بهذه الأمور بالذات؟
ببساطة لأن صديقك - كما اتفقنا في مرات سابقة - سيؤثر في قراراتك وسيشكِّل اتجاهاتك بصفة عامة، وسيكون أحد مشيريك الرئيسيين، لذا فعليك أن تطمئن لمصدر المشورة هذا. ويقول الحكيم أن أفضل ما في الصديق أنه يعطي المشورة «الدهن والبخور يفرحان القلب، وحلاوة الصديق من مشورة النفس» (أمثال27: 9)؛ وبالطبع فإنه يقصد ذوي الآراء الصائبة.
وبماذا أهتم أيضاً في اختيار صديقي؟
اهتم بالصفات الأدبية البارزة فيه، واهتم بأن تتناسب مع ما ترغب في أن تكون عليه كشهادة للرب أمام الناس.
زدني توضيحاً من فضلك.
لا تختَر صديقاً تتحكم فيه صفة سلبية لا تحب أن تكون فيك، ولاحظ أني أقول: تتحكم. فمثلاً إذ يحذر الحكيم عدة مرات في سفر الأمثال من الغضب ومساوئه وينهى المؤمن عن أن يتصف به، فإنه يلفت نظر من يختار صديقه بالقول: «لا تستصحب غضوباً، ومع رجل ساخط لا تجيء» (أمثال22: 24)، ويمكننا تعميم المبدأ علي كل الصفات غير المرغوبة.
وهل من نصيحة عملية أخرى؟
لا تنتظر الكمال في صديقك، فلن تجد مثل هذا النموذج إلا إذا أقنعت نفسك بغير الحقيقة، فكلنا بنا نقصات وضعفات. وضع في اعتبارك أن الصداقة تكتمل مع الزمن، فإذا اخترت صديقك على أساس سليم، ومارستما صداقة بنّاءة بعضكما مع البعض، فستكونان سبب تكميل لهذا النقصات بعضكما للبعض.
أعتقد أن لديك ما تريد أن تضيفه لحديثنا.
قيل قديماً إن أفضل طريقة ليكون لك صديق جيد هي أن تكون أنت صديقاً جيداً، ويمكننا أن نؤكد ذلك من قول الرب «وكما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا أنتم أيضاً بهم هكذا» (لوقا6: 31). ولديَّ كلمة أخيرة أقولها.
تفضل.
احترس من أن يكون غرضك كثرة الأصدقاء، فتبحث عن صديق هنا وصديق هناك، وتتنازل عن مقاييسك في اختيار الأصدقاء. وضَع نصب عينيك دائماً نصيحة الكتاب «المُكثر الأصحاب يخرب نفسه. ولكن يوجد محب ألزق من الأخ» (أمثال18: 24). ولا تنسَ، في غمرة اختيارك لأصدقائك، أن تستمتع بصداقة ذلك المحب الألزق من الأخ: ربنا يسوع.
أشكرك على تعبك معي، ولحديثنا بقية بمشيئة الرب.
ألقاك إذاً في ملء البركة، إن تأنى الرب في مجيئه.