اصطحبت أم المانية تبلغ من العمر 39 عاماً، تُدعى “بيزنباخ”، طفليها الصغيرين: فيليب وسيبستيان، في أول يوم من هذا العام إلى النمسا، لتقضي معهما يوماً ترفيهياً، يستمتعون جميعاً خلاله بجمال الجليد أعلى قمم الجبال، واستنشاق أنقى هواء على ارتفاعات شاهقة في مدينة كالس النمساوية. وهناك استقلت الكرسي الطائر (التلفريك) مع ولديها. وبالفعل تمتعت السيدة وولداها بأوقات سعيدة في الهواء في الكرسي الطائر. لكنها لم تكن تعلم النهاية المأساوية؛ فالموظف العامل بمحطة الكرسي الطائر المنوط به تسجيل أرقام الكراسي التي تقلع بالسائحين، أخطأ، بغير عمد، فنسى تسجيل رقم الكرسي الذي يُقِّل الأم وولديها. وبعد انتهاء الوقت المحدَّد لعمله اليومي، قام بمراجعة أرقام الكراسي، فبدا له أن جميع الكراسي التي أقلعت قد عادت. فأغلق الدائرة الكهربائية للمحطة، وغادرها إلى بيته حتى يعاود العمل في اليوم التالي، وهو لا يعلم أن هناك كرسياً آخر ما زال معلَّقاً بين السماء والأرض.
ومع اقتراب الظلام، وجدت الأم وطفلاها أن الكرسي قد توقف تماماً عن الحركة لانقطاع التيار الكهربائي، فنظرت حولها فلم تجد أحداً، حيث كان الكرسي يبتعد مسافة كبيرة عن المحطة. نظرت أسفلها فوجدت أن الجبال، التي كساها الجليد، تبعد عن الكرسي أكثر من ارتفاع ثلاثة أدوار؛ أما أعلاها فكانت السماء والعناية الإلهية.
وشعرت الأم وطفلاها بطول الوقت، إذ مرّت أكثر من ثلاثة ساعات دون أن يسأل أحد عنهم، كما بدأت درجة الحرارة تنخفض إلى الدرجة الصغرى، حيث درجة التجمد والصقيع القارس الذي بدأ يتخلل أجسادهم. ولم تجد بيزنباخ أمامها سوى أن تحتضن ابنيها وتضمهما بين ذراعيها، ليس فقط لكي تمنحهما الدفء بل لتحفظهما من الإصابة، لأنها قررت أن تقفز بهما من ارتفاع أكثر من تسعة أمتار دون أن تبالي بما قد يحدث لها. فكان هَمّها الأول هو إنقاذ ولديها ووصولهما إلى الأرض في أمان، حتى ولو تلقت هي الصدمة الكبيرة نتيجة القفز. وبالفعل احتضنت الأم الطفلين بقوة شديدة وقفزت بهما إلى قمة الجبل، ولقد حمى الله الطفلين بحضن الأم كما كانت تتمنى. ظلت تقاوم فوق الجليد وتتعثر في ظلام الليل خلال هبوطهم من قمة الجبل حتى وصلت بولديها إلى أقرب منطقة سكنية، وبعد ذلك غابت عن الوعي. وعندما أفاقت من غيبوبتها، وجدت نفسها في المستشفى وقد أصيبت بشلل نصفي وبعض الكسور.
لقد ضحت بيزنباخ، تلك الأم الحنون الشجاعة، وتألمت وأُصيبت وكُسرت، بسبب خطأ الغير، وذلك لكي تنقذ ابنيها من خطر الموت.
كم تمس هذه القصة الواقعية قلوبنا بشدة!
ولكن هناك تضحية أعظم وأروع هي تضحية ربنا يسوع المسيح، الذي من عند الله خرج وأتى إلى العالم، والذي من أجل ذنبنا وجرمنا وإثمنا وخطايانا الكثيرة كان لا بد، وهو القدوس البار، أن يموت من أجلنا على عود الصليب، ليعطي لنا الحياة الأبدية.
تأمل معي في العسكر الرومان وقد وصلوا إلى جبل الجلجثة، فطرحوا ذلك الصليب الخشن على الأرض، وعروا يسوع المسيح من ثيابه، ورأسه مكلَّل بالشوك المضفور، ووجهه وظهره ملتهبان من اللطم والجلد بالسياط؛ ثم ثقبوا يديه ورجليه بالمسامير، والدماء تخرج منهما. ثم انظرهم يرفعون الصليب وعليه المسيح معلَّقاً، ويسقطون الطرف الأسفل في حفرة مُعدَّة لغرس الصليب فيها. ثم أخذ الواقفون حوله يتهكمون عليه ويسخرون منه ويستهزئون به، في حين كان هو - تبارك اسمه - يطلب المغفرة لهم.
بحق كانت رهيبة تلك الآلام التي لاقاها من يد البشر في الثلاث الساعات الأولى. لكن الأقسى بما لا يقاس تلك التي من يد الله كالديان العادل في الثلاث الساعات الثانية؛ حيث الظلمة والوحدة والعطش، وهو يجوز في نيران العدل الإلهي. وأخيراً أسلم الروح بعد أن قال «قد أُكمِل». وعندما نتساءل لماذا هذه الآلام وهذه التضحية العظيمة؟ فإننا نجد الإجابة في كلمة واحدة هي المحبة. لقد أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها (أفسس5: 25). وعندما نتأمل في آلام المسيح على الصليب وتضحيته العظيمة لأجلنا، نرى المحبة الفائقة المعرفة، فنحبه لأنه هو أحبنا أولاً (1يوحنا4: 19)، ثم نقدم حياتنا له على مذبح التكريس ونهتف قائلين «لأن محبة المسيح تحصرنا، إذ نحن نحسب هذا أنه إن كان واحد قد مات لأجل الجميع فالجميع إذاً ماتوا. وهو مات لأجل الجميع، كي يعيش الأحياء فيما بعد، لا لأنفسهم، بل للذي مات لأجلهم وقام» (2كورنثوس5: 14 ،15).