كان وديع، طالب المدرسة العسكرية، يجوب شوارع القاهرة بلا هدى، فهو لم يكن يعلم حتى ماذا يريد أن يفعل؛ فهذه إجازة أخري من المدرسة، فهل يسافر إلي قريته، تلك القرية الخضراء الواسعة بوسط صعيد مصر؟ ولكن ماذا أفعل هناك؟ مللت هدوء وسكون القرية، هكذا قال وديع لنفسه وهو يتأوه بصوت يكاد يُسمع، وأخذ يردد: كرهت الحياة، فكل شيء أصبح مكرَّراً، ولا شيء له قيمة أو لذة بالنسبة لي، حتى السينما والمسرح مللت منهما، كنت أحضر أكثر من حفلة في اليوم الواحد، ولكن ما لي لم أعد أرغب في الذهاب إليهما؟ حتى الأصدقاء والأقارب مللت الحديث معهم. وعندها سالت دموع الغربة والاغتراب علي خدي وديع بغزارة، ولكنه جاهد أن يحتوي ما يشعر به من فراغ، ووضع في قلبه أن يقضي هذه الإجازة مثل سابقاتها، علي أن يخطِّط للإجازة القادمة. وطوال الأسبوع لم يشعر بأي رغبة لعمل أي شيء، فقرّر أن يبقى في المدرسة العسكرية ولا ينزل إجازته.
غادر الجميع المدرسة في بهجة وفرحة العطلة بعد التدريبات العسكرية الشاقة، إلا وديع. ذُهل البعض من أن وديع، الذي كان دائماً يشع فرحة ويشيع بهجة بينهم، ظل علي سريره والوجوم يخيّم عليه في صمت شديد. والأمر الذي جعلهم أكثر اندهاشاً هو عدم نزوله الإجازة اختيارياً، وليس كعقوبة أو تكدير. فرغت المدرسة من الجميع، عدا زميل لوديع كان نوبتجي لهذه العطلة، والذي كانت تربطه بوديع زمالة وحب شديدين. فسأل وديع باندهاش: لماذا لا تنزل إجازتك؟ أجابه وديع باقتضاب: ليس لدى رغبة لأي شيء.. كرهت السفر.. كرهت الفسحة.. كرهت كل شيء.. حتى كرهت أن أتحدث مع أي شخص. لهذا فضّلت أن أبقي هنا وحدي.
وعندها طلب زميل وديع منه أن يأخذ النوبتجية بدلاً منه ليتمكن هو من النزول، فرحّب وديع بذلك. وبينما كان زميله يغيّر ملابسة بسرعة وفرحة مذهلة، وقع من جيبه كتيب، وكانت دهشة وديع غامرة، إذ أن الكتيب الذي وقع من جيب زميله كان مكتوب عليه: بشارة يوحنا. سأل وديع زميله الذي التقط الكتاب سريعاً وأعاده إلي جيبه: ما لك وهذا الإنجيل؟ أجابه الزميل: إنه هدية ثمينة من صديق غالٍ جداً، ولقد وعدته، برهاناً لحبي له، أن أحتفظ به دائماً في جيبي. قال وديع لزميله: هل تسمح أن تعيرني هذا الإنجيل يومي الإجازة؟ وسأعيده لك بمجرد عودتك، فربما أجد فيه ما يسلّيني في وحدتي في هذه الصحراء الجرداء. قال زميله: بكل سرور بشرط أن تعيده لي بمجرد عودتي.
كان ذلك في إحدى ليالي الربيع في أوائل إبريل (نيسان) من عام 1941م. وبينما الليل يسدل ظلامه في المعسكر، كان وديع يلتهم الكلام في إنجيل يوحنا التهاماً. وبالرغم من أنه كان قد نشأ في عائلة مسيحية حقيقية، وكثيراً ما سمع آيات من الإنجيل، إلا أنه في هذه الليلة، وهو يقرأ، كان وكأنه يقرأ ويسمع الإنجيل لأول مرة. مرت الساعات كلحظات قليلة لم يشعر بها، ولما وصل في قراءته إلى الإصحاح الثامن عشر والتاسع عشر، صارت أحداث صلب المسيح، التي كان يقرأها، وكأنها حقيقة مصوَّرة أمام عينيه. آه.. لماذا يجلدونه؟ لماذا يلطمونه؟ لماذا يدقون المسامير بهذه القسوة في يديه ورجليه؟ آه.. لماذا كل هذا؟
وفي سكون الليل الرهيب، دوى صوت قوي جداً، أقوى من صوت كل المدافع والقنابل والصواريخ التي كان وديع يتدرب عليها، صوت غمر كل كيانه، صوت كان يجيب عن ألف لماذا ولماذا كانت تدور في ذهنه، كان الصوت الداخلي يجيب بكلمة واحدة؛ وهي: لأجلك.
لأجلي أنا؟! أنا الخاطئ. وعندها انفجر وديع في بكاء شديد، عند المصلوب يقبِّل قدميه المثقوبتين، ويعترف بكل آثامه وخطاياه، ويسلِّم كل كيانه للرب يسوع الذي مات لأجله. وشعر وكأن جروح المسيح الغائرة في كل جسمه، من الجَلد والصَلب، تغسل كل قذارة داخله.
وعندما أشرق الصباح، كان فجر جديد قد بدأ يشرق في حياة وديع، واختبر المكتوب: «إذاً إنْ كانَ أحَدٌ في المَسيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هوذا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2كورنثوس5: 17)، وعرف الفرح المفقود وتم فيه القول: «ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَرَوْهُ تُحِبُّونَهُ. ذَلِكَ وَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَرَوْنَهُ الآنَ لَكِنْ تُؤْمِنُونَ بِهِ، فَتَبْتَهِجُونَ بِفَرَحٍ لاَ يُنْطَقُ بِهِ وَمَجِيدٍ، نَائِلِينَ غَايَةَ إِيمَانِكُمْ خَلاَصَ النُّفُوس» (1بطرس1: 8،9)، وصار خلاص نفوس الآخرين غايته. وأخذ وديع إذناً عسكرياً لعقد فرص للصلاة مع الجنود والطلبة المسيحيين. وكان في كل إجازة يحضَر أكبر قدر من الاجتماعات الروحية. وظل يقرأ أكثر من ثلاثين إصحاح من الكتاب المقدس كل يوم. ورغم صغر سنه، الجسدي والروحي أيضاً وقتها، إلا أنه كان يعظ ويتأمل في هذه الاجتماعات، ثم يُدعي للكرازة في اجتماعات أخرى. حتى دعاه الرب للتفرغ الكامل لخدمته عام 1957م. وإن كان قد ترك العمل في الأسلحة العسكرية، إلا أن شعاره بقي دائماً أن الكتاب المقدس كان، وما زال، وسيظل، هو أعظم سلاح للأفراح.
صديقي صديقتي..
هل اختبرت هذا التغيير الحقيقي والأفراح السماوية المجيدة؟ إن كنت لم تختبر هذا، أدعوك لقراءة الكتاب المقدس، كلمة الله، فهناك، كما قال أحد القديسين، رجاء لأشر خاطئ إن قرأ الكتاب المقدس. أدعوك أن تصلي معي الآن:
صلاة: أيها الرب يسوع الوديع.. يا من لأجلي احتملت الألم المريع.. حاولت الخلاص بذاتي فلم أستطع.. ارحمني وخلصني لأتمتع دواماً بجمالك البديع.. آمين.