كيف توّقَف نزيف الطبيب

هو صديق الطفولة، ورفيق الصبا، وزميل الدراسة. أعرفه جيداً منذ نعومة أظافرى: مهذب، متفوق، مجتهد، طموح، يحلم طوال عمره بمستقبل باهر وبحياة هانئة سعيدة، ويكِّد ويجتهد لكى يحقِّق ما يصبو إليه؛ فكان النجاح والمجموع الكبير الذى أهّله للالتحاق بكلية الطب، ثم كان الحصول على البكالوريوس ثم على درجة الماجستير فى تخصصه.

افتُتحت العيادة الناجحة، وطال طابور المرضى أمام بابه. تزوَّج وأنجب طفله الأول. ولكنه كان دائماً يخبرني أنه غير متمتع براحة القلب وكفايته وشبعه، وأنه لم يتذوَّق أبداً طعم السعادة الحقيقية، وأنه لم يحصد من وراء كَدِّه واجتهاده سوى التعب والعناء والأنين المُرّ، وأنه مع كل نجاح وإنجاز جديد فى حياته كان حلقه يمتلئ بالمرارة، وقلبه يمتلئ بالأسى والحزن والغم. وكان يتصور أن السبب فى هذا أن الأحلام كلها لم تتحقق بعد. ولكن ما الذي كان ينقصه ليعرف قلبه طريق الاكتفاء والشبع والسعادة الحقيقية؟!

 توهم أن ما ينقصه هو سيارة فاخرة، وتصَّور أنه عندما يحصل عليها، ستأتي ومعها السعادة الحقيقية. فكان المزيد من الكَدِّ والاجتهاد فى العمل للحصول على المزيد من المال من أجل السيارة التى تخيّل أنها ستأتي محمَّلة بالفرح والبهجة لحياته.

وأخيراً حصل على السيارة الفاخرة، سيارة ~على الزيرو.. آخر موديل}. ويوم أن أتى بها، وأوقفها أمام منزله، صعد ليتطلع إليها من شرفته، وإذ بالحزن يغشاه والغم يزداد في قلبه، والكآبة تخيِّم على روحه، والاكتئاب يملأ نفسه، وإذ بتأوهات الأسى تتصاعد من صدره. إنه لم يحصل على ما كان يتوقعه من سعادة حقيقية أو شبعاً لقلبه، وها هو فارغ القلب، خاوِ الوجدان، لا ينطق قلبه إلا بأنّات اليأس الحزينة المرة. واكتشف خيبة مسعاه، الخيبة التامة الكاملة.

وظّل طوال هذا اليوم يفكِّر ويحاول أن يقيّم حياته واهتماماته وتطلعاته وإنجازاته على حقيقتها، متسائلاً فى نفسه: بعد ما تمضي الحياة، وينقضي العمر، بعد أن يكون الإنسان قد بذل جهده ووقته وقواه ومواهبه، ما الذي يكون قد حصل عليه مقابل ما بذله؟.. ماذا يشبعه ويعوِّض ما فات، ما ضاع، ما فقده؟ هل ما حصل عليه تعويض كافٍ عما بذله في سبيل الحصول عليه؟ هل هو يشبعه حقيقةً؟ هل يبقى ويدوم كربح أكثر وأفضل مما أعطى وصرف وأنفق؟ وأي شيء في هذا العالم استطاع أن يُشبع حنين قلب الإنسان وظمأه وجوعه، بحيث يقدر أن يقول: فاض قلبي، استكانت أشواقي القلقة، قد وجدت الطعام المشبع لجوعي، والماء المروي لعطشي؟!

وعندما تهيأ ليأوي إلى فراشه فى المساء، وجد باب غرفة نومه موصداً من الداخل، كانت زوجته قد أغلقته على نفسها لتصلي، إذ كانت أخت مؤمنة، تعرّفت على مخلِّصها وفاديها قبل هذا التاريخ بأيام معدودة.. فجلس في صالة منزله ليواصل أفكاره وتساؤلاته. وحانت منه التفاتة إلى الطاولة التي أمامه، حيث كانت زوجته قد تركت كتابها المقدس مفتوحاً، فإذ بعينيه تقع على هذه الكلمات الثمينة:

« وامرأة بنزف دمٍ منذ اثنتي عشرة سنة، وقد تألمت كثيراً من أطباء كثيرين، وأنفقت كل ما عندها ولم تنتفع شيئاًً، بل صارت إلى حال أردإ...» (مرقس5: 25-34).

وبدا وكأن شخص يتكلم إلى أعماق قلبه وضميره قائلاً:

إنك بائس ومسكين تماماً مثل هذه المرأة المسكينة، كانت تنزف دماً.. وكانت حالتها تتأخر من رديء إلى أردإ.. لقد أنفقت.. وتألمت.. ولم تنتفع شيئاً، بل صارت إلى حالٍ أردإ... وها أنت مثلها تماما: تستنزف عصارة حياتك لتجد السعادة.. ولكنك تنفق ولا تنتفع شيئاً، لأنك تبحث عن الشبع والاكتفاء وعن الشفاء من تعاستك عند أطباء كثيرين.. طبيب النجاح العالمي والعلمي.. طبيب الصيت والشهرة.. طبيب الشهوات والمسرّات العالمية.. طبيب المال والمقتنيات.. وكل هؤلاء أطباء بطّالون (أيوب13: 4)؛ ولكن الحاجة إلى واحد (لوقا10: 42). وعبثاً تحاول أن تشبع النفس بالمسرات العالمية أو الأمور الأرضية أو الشهوات الجسدية، فإن شبعها وراحتها فى الرب نفسه.. ويا له من خطأ وجهل فاضح أن تترك الينبوع الذى يفيض بوفرة وغزارة ليروي العطشان، وتحفر الآبار المُشقَّقة التى فيها الخيبة والفشل واليأس. وبالرغم من كل الأشياء الكثيرة والملذة والجذابة فى هذا العالم، فهو لا يزيد عن كونه صحراء، وبمقدار ما تجذبك الأشياء المسرة والخلابة التي في العالم، بهذا المقدار يتسرب الجفاف إلى نفسك والبرودة من نحو الله إلى قلبك (إرميا2: 12،13؛ جامعة2: 1-11)..

ولكن تعلَّم الحكمة من هذه المرأة البائسة، التى بعد أن أعيتها الحيلة، وبعد أن فرغت جعبتها، وبعد أن أنفقت كل ما لديها دون نفع أو طائل، وبعد أن انتُزع من قلبها كل أمل فى أى مساعدة بشرية، وبعد أن نضب من أمامها كل مَعين إلا ذاك النبع الدائم الجريان، نبع المحبة الفدائية. فى هذه الحالة، حالة الشقاء التام، أتت إلى الرب يسوع «لأنها قالت إن مَسَسَتُ ولو ثيابه شُفيت». وتبارك اسم الرب فإنه لم يُخزِ إيمانها. وأي شخص غيرها أتى للرب يسوع بالإيمان وأصابه الخزي؟ لا أحد لأنه مكتوب «من يُقبِل إليَّ لا أخرجه خارجاً» (يوحنا6: 37). إنه الطبيب العجيب الذى لا يتقاضى عن شفاءه أجراً، أن كل عطاياه هي «مجاناً» (رؤيا21: 6) «بلا فضة وبلا ثمن» (إشعياء55: 1).. إن المرأة، بمجرد أن لمست ثوبه «للوقت جفَّ ينبوع دمها، وعلمت (أحست) فى جسمها أنها قد برئت من الداء». لقد نالت شفاءً لحظياً.. شفاءً كاملاً وأبدياً.. شفاءً مجانياً.. هذا هو الرب.. لقد انصرفت من أمامه إلى بيتها، ليس فقط متمتعة بالشفاء الجسدي، بل بما هو أفضل وأهم، ببركة السلام لنفسها وروحها «اذهبي بسلام» (مرقس5: 34)..

وأنت أيها المسكين الظامئ المحتاج للمسيح، يا مَن أنهكتَ قواك في حَفر الآبار، إن ينبوع محبة الله يفيض بغزارة، فأقبِل إلى الرب يسوع قبل فوات الأوان، أقبِل إلى ذاك الذي يستطيع أن يروي النفس ريّاً كاملاً وإلى الأبد. أحبائي.. لقد كان الروح القدس يتكلم إلى قلبه وإلى ضميره، وكان يجاهد معه ليولد من جديد، وليصبح خليقة جديدة فى المسيح.

وخرجت زوجته من الغرفة مسرعة على صوت صراخه وبكائه وهو يطلب من الرب يسوع قائلاً: ~أنا محتاجلك.. أنا عايزك.. أنا عايز أعرفك.. خلّصني.. اقبلني..}.

وتعرَّف صديقي الطبيب بالرب يسوع المخلّص فى تلك الليلة. وعندما رأيت أساريره تنطق بالفرح، والسعادة تشع من وجهه، سألته: ما الذى حدث؟!

أجابنى: كنت تائهاً، ووجدت العنوان.. بل وجدت «الطريق والحق والحياة» (يوحنا14: 6)

عزيزى..

هل تمتعت بهذه النعمة الغنية المتفاضلة؟!