حدث هذا إبان حفل تتويج إليزابيث ملكة إنجلترا، التي حكمت بين عامي 1558 و1603، وكان عصرها من أزهى عصور إنجلترا. فقد شهدت إنجلترا قبلها عصوراً مظلمة أثناء حكم هنري الثامن والدها الذي كان مُحباً للسلطة وحشي الطبع وأسيراً لشهوته، ومن بعده الملكة ماري (أخت إليزابيث) والتي لُقِّبَت بـ“ماري الملطَّخة بالدماء”، فقد قدّمت، إلى المشانق والمقاصل والمحارق، المئات ممن يختلفون معها. ولكن جاء عصر إليزابيث بترتيب من الله أن تأتي ملكة محبة للعدل والحق (كلمة الله)، فكان عصرها من أزهى عصور المملكة.
كان حفل التتويج رائعاً، كسا مدينة لندن حُلة جديدة من الاحتفالات والأفراح، وقُدِّمت اليها الكثير من الهدايا وكلمات الترحيب العميقة. أما ما نخُصَّه بالذِكر فهو الفقرة الأخيرة من الاحتفال، فقد تقدَّم رجل مُسِّن يمثِّل بزيه الزمن، يقود فتاة ذات رداء أبيض وشعر مسترسل، وكان اسمها المكتوب على صدرها «الحقيقة»، وتحمل في يدها كتاباً عنوانه «كلمة الحق» أعطته للملكة. تناولت إليزابيث الكتاب الذي كانت الحقيقة ممسكة به؛ ولم يكن هذا الكتاب سوى الترجمة الإنجليزية للكتاب المقدس، فضمّته إلى صدرها، وهي ترفع عينيها إلى السماء في صلاة صامتة، فقد كانت تدرك جيداً مسؤليتها أن تنشر كلمة الله بين عامة الشعب، بعد عصور الظلام التي شهدتها البلاد، فما أثمن الحق! وما أعظم احتياجنا إليه للتمسك به وسط أيام يحيط بنا فيها الضلال والكذب من كل ناحية!
والحق هو كل ما يتصل بالله، إنه الله ذاته، وهو الإعلانات والبركات الثمينة المُعلَنة لنا في المكتوب. وهو ليس شيئاً نظرياً جامداً نحفظه بأذهاننا، فكل أمور الله نقترب منها بقلوبنا، طارحين الحكمة البشرية جانباً ونستقبلها باستنارة إلهية خاصة، لهذا يصلي المرنم «أرسل نورك وحقك» (مزمور43: 3). ومن إعلانات الوحي نعلم أن الحق هو الرب يسوع «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يوحنا14: 6)، وبداية قبولنا للحق هي أن نقبل شخصه الكريم في حياتنا معترفين بخطايانا تائبين عنها، فنرفض الكذب ونُسَرّ بالحق في الباطن (مزمور51: 6). كما أن الحق هو كلمة الله «كلامك هو الحق» (يوحنا17: 17). والآن ما هو السبيل لأن تظل حياتنا ملتصقة بالحق، منفصلة عن الكذب:
اقتنِ الحق
«اقتنِ (اشتري) الحق، ولا تَبِعْهُ» (أمثال23: 23). أما الثمن فهو أن تقاوم ميول الجسد: الانجذاب نحو بضائع العالم المغرية ذات البريق الخادع. فإذا بدأت بطاعة الحق فلا تبعه، ولا تستبدله بحفنه من ضلالات وأباطيل العالم. ولعل الكثيرون يحتاجون إلى العتاب الإلهي «كنتم تسعون حسناً، فمَنْ صدَّكم (أعاقكم) حتى لاتطاوعوا الحق؟» (غلاطية 5: 7). فلتظل إذاً متمسكاً بالحق على الرغم من سيول الكذب المنتشرة من حولك، وما من سبيل لذلك سوى الالتصاق الدائم بكلمة الحق (يوحنا17: 17)، والسلوك بالبر والقداسة العملية، لكي لا تحزن الروح القدس، روح الحق، فهو الذي سيرشدك دائماً إلى جميع الحق (يوحنا16: 13).
تسلح بالحق
فلنا الوصية «اثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق» (أفسس6: 14). وللعامل العادي كانت المنطقة تشد ملابسه حول حقويه، كي لا تعرقل سيره، فيصبح خفيف الحركة متأهِّباً لعمله بدون عوائق. أما بالنسبة للمحارب، فالمَنْطَقَة من الجِلد المدعَّم بصفائح الفولاذ، وشد المنطقة للجندي علامة عدم الاسترخاء، أي التأهب للقتال. والمنطقة تثبت باقي الأسلحة في مواضعها، كما أن السيف يُعلَّق بها (2صموئيل20: 8). والحق هو أول قطع سلاح الله الكامل، هو الأساس لباقي الأسلحة؛ فليس بمقدورنا مقاومة الشيطان بدون الحق. فالحق هو الذي يحكم سيرنا، اتجاهنا، قراراتنا، وسلوكنا؛ والسر لكل سلوك مقدس أو غير عالمي هو الامتلاء بالحق. كما أنه علينا أن نمنطق أحقاء ذهننا (1بطرس1: 13) لنسيطر على مجرى أفكارنا، هادمين ظنوناً (أفكاراً خاطئة ليست بحسب الحق) مستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح (2كورنثوس10: 3-5). فلنُلقِ القبض على كل ما شَتَّ مِنْ أفكارنا لنجعلها بحسب الحق، ولا ننشغل أو نفكر إلا في كل ما هو حق (فيلبي4: 8).
اسلك بالحق
فما قيمة حق لا نعيشه؟ إن الاكتفاء بمعرفة وفهم الحق دون تطبيقه لا يؤدي إلا إلى الانتفاخ والكبرياء، وهذه خطية شائعة، ففي استطاعة الجسد أن يعرف الحق (جزئياً) وحتى أن يعلِّم به دون أي تطبيق عملي، وما أسوأ هذا! إنه يؤدّي بالكثيرين إلى العثرات، والانتفاخ الباطل دون العيش في قوة كلمة الله. وويل للمرائين! لكن علينا أن نجعل الحق يضبط طرقنا لتكون متفقة مع مجد الله. وما أحوجنا إلى الاتضاع في محضر الله فهو «يدرِّب الودعاء (فقط) في الحق» (مزمور25: 9).
فمثلاً الدراسة المفصَّلة عن مجيء الرب والحوادث التي تليها لهي دراسة نافعة، ولكنها وحدها لا تصيرني منتظراً للرب؛ أما الوجود في محضر الله والتعقل للصلوات فيحولان ما تعلمته ليكن حقاً مُعاشاً، ينشئ فيَّ انتظاراً حقيقياً للرب.
وليت الآخرون يشهدون بالحق الذي فينا، فليس من فرح أعظم من أن يكون أولاد الله سالكين بالحق (3يوحنا3، 4).
انشر الحق
إذا كان لإبليس مملكة منظَّمة قوية لنشر الضلال والأكاذيب لقيادة الكثيرين إلى الهلاك الأبدي، فإنها مسئوليتنا أن نكون جنوداً صالحين ليسوع المسيح رافعين راية لأجل الحق (مزمور60: 4). وأما وسيلتنا لنشر الحق فهي فقط كلمة الله. إنها التي أنارت أذهان الكثيرين من أبطال الإيمان، فاستخدموها بكفاءة لفضح أكاذيب العدو على مر العصور.
إنها مسئوليتنا كأفراد أن نمتلئ من كلمة الله، فنمتلئ بالروح القدس، وهو الذي يشهد للمسيح (كولوسي 3: 61؛ أفسس5: 81؛ يوحنا15: 26).
فلنستَّل سيف الروح المثبَّت في منطقة الحق (أفسس6: 17) لنهاجم العدو ونحرِّر النفوس من قبضته، ولتكن شريعة الحق دائماً في أفواهنا كي نُرجع الكثيرين عن الإثم (ملاخي2: 6). ولنُصَلِّ كل يوم «لا تنزع من فمي كلام الحق» (مزمور119: 43).
نتائج الالتصاق بالحق
وإذ نفعل هذا نحقق غرض إلهنا، ونتمتع بكثير من البركات؛ فالحق..
- يحررنا (يوحنا 8: 32)، فلا نُستعبد لشيء ولا نرتبك بنير العبودية (غلاطية5: 1).
- يقودنا لمحضر الله (مزمور43: 3).
- يهدينا للطريق الصحيح (مزمور43: 3).
- يقدِّس حياتنا عملياً (يوحنا 17: 17).
صلاة:
يا رب أتوجه إليك بكل قلبي، فأنت الحق.. والحياة زائفة.. أسلِّمك ذاتي بخضوع، فقد اخترت طريق الحق.. قدِّسني في حقَّك.. درِّبني فيه وعلمني.. ثبِّتني فيه وعمِّقني.. ولا تنزع من فمي كلام الحق أبداً.. آمين.