حدث ذلك في أحد أيام يوليو.. كنا قد استقبلنا لتوِّنا حدثًا سعيدًا، وكنا ذاهبين لنهنئ صديقنا الذي رُزق بمولوده الأول "نور". وبينما انشغل الأب بإعداد بعض الآيات التي تتكلم عن النور لكتابتها على بطاقات ورقية ملونة، انشغل آخرون في إعداد الحلوى والمرطّبات، وغيرهم في إعداد المنزل، وذهب أحد صغار العائلة يحاول الحديث مع المولود الصغير! وانتشر في الجو البِشر والبهجة. وفي هذا التوقيت بالذات أتانا نبأ حزين وقع علينا كالصاعقة.. حادث مروع على طريق أسيوط الزراعى، ذهب ضحيته ثمانية عشر فردًا كلهم من الشباب، كان ضمنهم أحد الأصدقاء القدامى والذي كان في طريقه ليخدم الرب في أحد البلاد، ولكن الرب رأى له طريقًا أفضل!
وعملاً بقول الحكيم «الذهاب إلى بيت النوح خير من الذهاب إلى بيت الوليمة. لأن ذاك نهاية كل أنسان» (جامعة 7: 2)، فقد تركنا مولودنا يبكي دخوله إلى هذا العالم السقيم.. وذهبنا نحن نبكي صديقنا القديم.
وهناك بدا وكأن المدينة الصغيرة قد خرجت عن بكرة أبيها لتوِّدع جسد صديقنا الشاب. وسِرنا تنازعنا الأفكار، وتتولد داخلنا الخواطر.
فما بين الداخلين إلى الدنيا والراحلين عنها تدور عجلة الحياة مسرعة.. مسرعة، وكأنها لا تبالي بمن أتى ولا وبمن رحل! فما هي حياتنا؟! «إنها بخار» (يعقوب 4: 14) يظهر ولا يلبث أن يختفي سريعًا.. إنها «كقصة» (مزمور 90: 9) لا تزيد عن كونها قصة قصيرة تُقرأ سطورها في دقائق معدودة.. وهي «كحلم» (مزمور 73: 20، أيوب 20: 8) لا تملك إلا أن تستيقظ بعده لتواجه حقيقة المصير..
وهي أيضًا «كالظل» (جامعة 6: 12)، فحياتنا الأرضية ليست هي الحقيقة على الإطلاق. أ لم يُصلِّ داود قائلاً: «عرِّفنى يا رب نهايتي... فأعلم كيف أنا زائل... إنما كخيال يتمشى الإنسان» (مزمور 39: 4-6). فما أقصر الحياة، وما أتفهها! ولكنك تجد الناس ينظرون إليها نظرات شتى:
نظرة حائرة:
نظرها العديد من الفلاسفة والأدباء محاولين تفسير غوامض الحياة ومجاهلها، فاستعصى عليهم الفهم وأصابهم الحزن والغم. جلس فيلسوف التشاؤم "شوبنهاور" مرةً على مقعد خشبي في أحد الحدائق العامة، بدا حزينًا غارقًا في التفكير. تقدّم إليه شرطي ظانًا إياه متسولاً، وقال له: "من أنت؟ وماذا تفعل هنا؟" أجاب شوبنهاور واجمًا وبدون إنتباه: "ليتني كنت أعرف"! فلم يكن يعي سبب وجوده في العالم، ولم يكن لديه مفتاح يفتح به قفل معاني الحياة فعاش تعيسًا!
فيلسوف آخر قال: "إن البحث عن معنى للحياة يشبه البحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة في ليلة ليلاء". وكتب أحدهم "إن الحياة مسرحية ندخل إليها بعد أن تبدأ ونخرج منها قبل أن تنتهي". لذا فقد أنهى الكثير من مشاهير البشر - ممن دعاهم العالم نجومًا - حياتهم بأنفسهم لأنهم لم يجدوا لحياتهم معنى! وبمعزل عن نور الإعلان الإلهي ،وبنظرة ما تحت الشمس كتب سليمان الحكيم عن الحياة أنها «عناء رديء جعله الله لبني البشر ليعنوا فيه... فكرهت الحياة» (جامعة 1: 13؛ 2: 17).
نظرة لاهية: أصحاب هذه النظرة غَضّوا البصر عما يحدث حولهم من أمور تستحق الانتباه واندفعوا في تيار الحياة لاهين صاخبين. وما أكثرهم! تجدهم منهمكين في كثير من الأمور (التي ليست بالضرورة خطايا) ولكنك تستطيع أن تضع عنوانًا عريضًا لحياتهم هو "اللامبالاة" فلن تجد وسط سطور قصتهم -أقصد حياتهم- أيًّ من الأمور العظيمة القَيّمة. ستجد العديد من الساعات والأيام، أو السنوات، تُنفق في لهو وتسلية أو عمل ودراسة أو نوم وراحة، ولا مانع من حضور أحد الاجتماعات بين الحين والآخر. أصحاب هذه النظره قادرون على تحويل الأمور الجادة إلى هزل، ومما يثير الدهشة أن الوقت في نظرهم عبء ويجب التفكير في أفضل الطرق لإضاعته، ويجدون لذلك الكثير من الوسائل (تلفاز، كمبيوتر، إنترنت، شلة ونادي، روايات عالمية.. وغيرها) وليس لأحدهم رصيد حقيقي من أوقات الشركة الحية مع الله، ولم يتوقف أحدهم يومًا عند صلاة موسى «إحصاء أيامنا هكذا علِّمنا فنؤتى قلب حكمة» (مزمور 90: 12) أو ينتبه لتحريض بولس «مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة» (أفسس 5: 16).
نظره صائبة:
البداية الصائبة لرحلة الحياة القصيرة أن تعطي حياتك لمن مات لأجلك لكي يمنحك حياة أفضل. فلتحوِّل النظر بعيدًا عن صخب الحياة وضجيجها، ملاهيها وأحزانها، لتبحث عن معنى الحياة عند ربها ومنشأها.
فالبداية هي أن تتوب عن خطاياك لكي ترى «أيامًا صالحة» (1بطرس 3: 10)، وإن كان الفلاسفة والمفكرين لم يعلموا للحياة معنى ولكننا نعلم: لقد خلقنا الله وأوجدنا في هذه الحياة على صورته وشبهه لكي نمجِّده (إشعياء 43: 7؛ أفسس 2: 10 ). ومن يحيد عن هذا الغرض فقد أضاع قيمة الحياة. في حين أننا نجد معنى للحياة في قول السيد «من أضاع حياته من أجلي يجدها» (متى 10: 39).
فإن أنفقنا حياتنا في معرفة الرب والمكوث في محضره وفي خدمته فهذا هو عين الحكمة. ستجد الكثيرين يحاولون أن يخلّدوا ذكراهم بعد الممات، لكن أ تعلم أن ما نعمله لأجل المسيح سيظل حيًّا طوال الأبدية؟ ومهما كان هذا العمل صغيرًا فإنه سيبقى خالدًا أكثرمن الزمن؛ فكتل الحديد وأحجار الجرانيت تتحطم بمرور الزمن، ولكن رصيدنا الذي ذخرناه في حياتنا القصيرة من أوقات الشركة الحية والخدمة المنكرة للذات لن يفنى أو يتلاشى.
عاش ديفيد برنارد حياة لا تزيد عن التسعة وعشرون عامًا، لكنه كان مكرَّسًا تمامًا لمشيئة الله، فأفنى حياته في خدمة الرب مبشِّرًا الهنود بالمسيح. لقد تعلَّم أن الحياة الخفية التي يقضيها المؤمن في شركة مع الله لكي يعيش مُرضيًا لسيده خادمًا له، هي حياة تستحق أن نحياها. كان برنارد يقضي أيامًا كاملة في الصلاة، وكتب في نهاية حياته "لم أعُد أشعر أنني أحد سكان الأرض، أنا مواطن سماوي.. لا يمكن لأي مؤمن حقيقي أن يتمتع بالسعادة والشبع دون أن يكون مكرَّسًا للمسيح.. وفي ضوء هذا الاعتقاد كنت أتصرف.. كما كنت أتمنى أن أخدم الرب أكثر مما خدمت".
ستكشف لنا الأبدية كم كان برنارد مُحِّقًا، وكم سنتمنى أمام كرسي المسيح لو أن أوقات الشركة مع الله وأوقات الخدمة الحقيقية والتعب لأجل الرب كانت أضعافًا مضاعفة.
يطيب لي أن أترك معك هذه النصيحة الثمينة للفتاة الأمريكية "جوني إيريكسون". وهي فتاة مصابة بشلل كلّي لكنها تخدم الرب عن طريق رسم لوحات فنية، مُمسكة الفرشاة بأسنانها: "لديك فرصة ثمينة مكوَّنة من أربع وعشرون ساعة لأن تعيش يومًا لم تعشه من قبل، يومًا فريدًا ومميَّزًا عن سائر الأيام، مشحون بالإمكانيات والقدرات. والله يمنحك هذه الأربع والعشرون ساعة لتستثمرها في فرصة تبلغ قيمتها الأبدية التي لن تنتهي أبدًا".
ما أحوجنا أن ننظر إلى حياتنا نظرة في ضوء الأبدية.. فهل لحياتك قيمة أبدية؟