المخراز والجلد


اجتمع الأهل والأصدقاء في مساء 4 فبراير 1809 في منزل صانع أحذية من البسطاء اسمه برايل في كويفري سين مارن على بُعد 35 كم من باريس ليهنئوه بميلاد أول طفل له حيث دعا اسمه لويس. عندما بلغ لويس الثالثة أخذه أبوه إلى مكان عمله وكان يراقب أباه وهو يُقطّع الجلود مُستخدمًا سكينته الحادة، فأراد الطفل أن يُقلِّد أباه فأخذ مخرازًا وحاول أن يقطع به قطعة من الجلد، ولما كان الجلد سميكًا أمسك لويس المخراز بكلتا يديه وضغط عليه بكل قوته فانفلت المخراز فجأة وانقلب إلى أعلى حيث انغرس بكامله في عين لويس اليُمنى .
هرع برايل وزوجته إلى لويس الذي كان في مسيس الحاجة إلى تخفيف الألم المُذيب فحملوه إلى مستشفى قريب حيث أخبرهم الطبيب وهم في ترقب رهيب أن العصب قد أُصيب والعين اليُمنى لن تطيب وقد فُقدت بالتمام وأنه سيفقد عينه اليُسرى بعد أيام. ولم يمر شهر من الزمان حتى كان الغلام أعمى لا يرى إلا الظلام.
منذ ذلك اليوم التعيس صار لويس لا يرى أي بصيص من الأمل يساعده ليعيش، حتى أخذه أبوه إلى باريس ليلتحق بمدرسة لتدريس المكفوفين إذ بلغ السادسة من عمره. تفوق الصبى في المدرسة وكان ترتيبه أول القائمة رغم صعوبة القراءة بطريقة الحروف القائمة وبرع أيضًا في الموسيقى حتى أنه لما بلغ الخامسة عشرة عمل كعازف للبيانو في أكبر كنيسة في باريس .

عُيّن لويس مُدرسًا في نفس المدرسة التي أنهى بها دراسته وكان دائمًا يشعر بمُعاناة تلاميذه من صعوبة القراءة بطريقة الحروف القائمة حتى أخذ لويس في تكريس الليالي، لعدة أعوام على التوالي ليفكر في طريقة أوقع وأسهل يقرأ بها العُمي. وفي الرابع من فبراير سنة 1835 كان لويس برايل مع أصدقائه يحتفل بعيد ميلاده السادس والعشرين حيث راودته ذكرى ذلك اليوم الحزين وهمس قائلًا: ياله من مخراز لعين. وفجأة أخذ يصيح بأعلى صوته .. المخراز والجلد. المخراز والجلد. حتى ظنه أصدقاؤه أنه أُصيب بلوثة وقالوا له برفق لا داعي لذكريات السواد في حفلة عيد الميلاد، ولكن لويس لم يعبأ بكلامهم وأخذ يردد بأعلى صوته بعد أن وقف في مكانه.. المخراز والجلد .. المخراز والجلد.

نعم . لقد كان لويس برايل في تلك اللحظات الخالدة يخترع طريقة برايل الشهيرة لقراءة المكفوفين باستخدام ثقوب في الجلد أو الورق تُعبر عن الحروف فالكلمات ثم العبارات. هذه الطريقة التي مازالت حتى يومنا هذا ورغم وفاة لويس برايل في عام 1852، أفضل طُرق القراءة للمكفوفين في العالم كله.  لقد تحوَّل المخراز والجلد اللذان كانا سبب آلام وظلام لعينى لويس برايل إلى الوسيلة العظيمة لإنارة ملايين المكفوفين بنور العلم الثمين عبر السنين .

أخي .. أختي : إن لويس برايل أنار عقول العميان بنفس الشيء الذي تألم به وسبب له الأحزان. ولكن هناك شخصًا أعظم بما لا يُقاس قد تألم وبنفس الآلام التي تألم بها حتى الموت أبطل العمى والموت وأنار لنا الحياة والخلود (2تيموثاوس 1: 10) لقد خسفت من الغم عيناه (مزمور 31: 9) بل كانوا يغطون عينيه ويضربون وجهه (لوقا 22: 64) وعندما عُلِّق على الصليب أطبق الظلام على الحبيب وهو يحمل حملنا الرهيب .. وهو لم يُجرح بمخراز ولكن تمزق ظهره بسوط جيش الرومان الجبار وثُقبت يداه ورجلاه بالمسمار بعد أن ثُقب جبينه البار بإكليل الشوك المُستعار بدلًا من إكليل المجد والفخار. وياللعار !! حتى بعدما عطش، مُفجر الينابيع ومُجري الأنهار، ومات- بعد أن ذاق المرار، طعن جنبه الأشرار.. كل هذا لينجينا من الظلمة والنار ويُعطينا البصيرة وليكون لنا المنار (1يوحنا 5: 20).. فهل تعلم أن كل إنسان خاطئ هو أعمى روحيًا وذهنيًا وقلبيًا حتى إن كانت عيناه الجسديتان حادتين وأقوى من عيون الصقور.. فلقد قال الكتاب المقدس أن الشيطان إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين (2كورنثوس 4: 4).

صديقي .. صديقتي .. أسمعك تقول لي : لماذا هذا التشاؤم؟ أنا لست أعمى. إذًا إسمح لي أن أسألك خمسة أسئلة. فإن كانت إجابتك عليها نعم فأنت حتمًا أعمى وتحتاج أن يدخل قلبك المسيح الذي يُنير كل إنسان (يوحنا 1: 9).

(1) هل اللون الأسود رفيقك ؟ فالأعمى لا يرى إلا اللون الأسود، والخاطئ يرى الحياة مُظلمة والمستقبل غامضًا وكئيبًا «شدة وضيق على كل نفس إنسان يفعل الشر» (رومية 2: 9).

(2) هل لا تعرف عدوك من صديقك ؟
فتهرب وتبتعد عن المسيح الذي أحبك ومات لأجلك وكأنه عدوك. وتُصادق وتسير في طُرق إبليس الذي لم ولن يحبك بل في النهاية سيخونك (يوحنا 8: 44).

(3) هل لا ترى طريقك ؟ فالخاطئ كالأعمى يسير بلا هُدى أو هدف أو مباديء إلهية لأنه لا يعرف الذي قال عن نفسه «أنا هو الطريق» (يوحنا 14: 6).

(4) هل جمال المسيح لا يروقك ؟
الخاطئ كالأعمى لا يرى أي جمال في المسيح الأبرع جمالًا من بني البشر (مزمور 45: 2) ويظن أن الجمال في قاذورات وشهوات العالم لأنه أعمى .

(5) هل الحفرة الأبدية ستكون لحريقك ؟ فالخاطئ لا يرى الخطر الذي أمامه كالأعمى. فدعني أسألك: أين ستكون في الأبدية؟ هل ستذهب إلى النار المُعدّة لإبليس (متى 25: 41). فإن كنت لا تعلم فهذا أكبر دليل على أنك أعمى لأنه مكتوب أن الخاطئ كالأعمى لا يعلم أين يمضى لأن الظلمة أعمت عينيه (1يوحنا 2: 11)

لقد انفرد المسيح الحنّان بفتح عيون العميان وهو لايزال يُنير كل إنسان يأتي إليه . فتعال إليه وصلِ معي الآن .        

صـــلاة: أيها المسيح القدير يا مَنْ سُمّرت لأجلي بالمسامير .. أعترف لك إني شرير فغيّر قلبي الضرير ليتحول إلى قلبٍ مُنير يهتدى بنورك في المسير . آمين ..