بدأنا الحديث في العدد الماضي عن الآلام الجسدية الرهيبة، ونكمل في هذا العدد حديثنا فنتكلم عن
الآم المسيح النفسية
كم كانت عميقة آلام المسيح النفسية طوال حياته على الأرض.
- فكم عدد الذين أبغضوه بلا سبب «أكثر من شعر رأسي الذين يبغضونني بلا سبب» ( مزمور 69: 4)، «بدل محبتي يخاصمونني... وضعوا عليَّ شرًّا بدل خير وبغضًا بدل حبي» (مزمور109: 4، 5 ). لقد أبغضوه كثيرًا وأبغضوه رغم كل أعماله الحسنة، أبغضوه رغم المعجزات التي عملها، ورغم أنه شفى مرضاهم وأشبع الآلاف منهم. وإذ ملأت البغضة قلوبهم أخذت طريقها إلى أفواههم حتي أنهم عيّروه «وتعييرات معيّريك وقعت عليّ» ( مزمور 69: 9). واسمعه يقول «يتكلّم فيّ الجالسون في الباب وأغانيّ شرَّابي المُسكر» (مزمور 69: 12). وكم كانت هذه البُغضة قاسية جدًا على نفسه، فهو لم يعرف البغضة لأي شخص على الإطلاق، بل هو الذي كان يحب بلا سبب وبدون انتظار مقابل.
- ثم كم كان فقره، رغم أنه الغني؛ فقد بدأ حياته في مذود حقير، ثم عندما تمت أيام المطوَّبة أمه لتقدِّم ما تطلبه الشريعة في لاويين 12 لم تستطع أن تقدِّم إلا تقدمة الفقراء يمامتين أو حمامتين (لوقا 2) مع أن المولود العظيم يقول في مزمور 50: 10،11 «لأن لي حيوان الوعر والبهائم على الجبال الألوف، قد علمت كل طيور الجبال ووحوش البرية عندي». ثم نراه يتربى في مدينة محتقرة هي الناصرة (لوقا4: 16). وكان يعمل نجارًا حتي أن الذين سمعوه بُهتوا وكانوا يقولون: «من أين لهذا هذه؟ وما هذه الحكمة التي أُعطيت له حتى تجري على يديه قوات مثل هذه ؟ أليس هذا هو النجار ابن مريم» (مرقس 6: 2،3 ). وكان الرب بلا مأوى إذ نسمعه يقول «للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه» (لوقا 9: 58). ولم يمتلك نقودًا حتى أن يونا وسوسنة وأخريات كثيرات كُنَّ يخدمنه من أموالهن (لوقا 8: 3).
- في جثسيماني، إذ نراه في البستان ونفسه حزينة جدًا حتى الموت، يصلي في حزن واكتئاب؛ وإذ فرغ من الصلاة إذا بيهوذا قد جاء ومعه جمع كثير بسيوف وعصي، وكان قد اختار علامة خاصة، بها يسلم سيده وهي القُبلة. لقد أُفسد وجه الرب بطرق عديدة فعليه جرت قطرات عرق ودم، ولُطم وبُصق عليه ومزقه الشوك؛ ولكن ما نفذت واحدة من هؤلاء مثل ما نفذت تلك القبلة الغادرة إلى قلبه.
- ثم تعالوا بنا نسمعه في النبوة يقول «إن حسن في أعينكم فاعطوني أجرتي وإلا فامتنعوا. فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة» ( زكريا 11: 12)، ثم يقول عن هذا الثمن أنه «الثمن الكريم الذي ثمنَّوني به»، وإذا عُدنا إلى خروج 21: 32 نستطيع أن نفهم مغزي هذا القول، فقد كانت الثلاثين من الفضة هي الثمن الذي حددته الشريعة لعبد نطحه ثور فمات!
- ثم ماذا كان شعوره أمام هذه الجماعة؟ إذ نسمعه يوجِّه كلامه لهم «كأنه على لص خرجتم». ثم قبضوا عليه وأوثقوه، بالمهانة والعار!
- في المحاكمة الدينية واحد من الخدام كان واقفًا ورفع يده وبقبضته لطم الرب يسوع على فمه.
وكان رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع كله يطلبون شهادة زور على الرب يسوع لكي يقتلوه.
كم تألم الرب يسوع حين مزق رئيس الكهنة ثيابه في حركة تمثيلية متهمًا إياه: «قد جدَّف».
- بعد صدور الحكم لا نري في قلوبهم سوى التشفي والانتقام، فضربوه بالعصي وبصقوا على وجهه، وكانوا يضربونه ويسألونه: «تنبأ من هو الذي ضربك؟». أما العسكر الرومان فكانوا يجثون أمامه مستهزئين به. إننا لا نستطيع أن ندرك وقع تلك الإهانات والتحقيرات على نفسه الحساسة وشعوره الرقيق.
- شيء آخر كان مؤلمًا على قلبه وهو في غمار الألم، عندما سمع اسمه يُنكَر بل ويُقرَن بحلف ولعن وخيانة واضحة من أحد تلاميذه. وإذ ذاك نراه - له المجد - لم يستسلم إطلاقًا للشعور بالغضب بل نسيَ أحزانه الشخصية حتى أنه نظر إلى بطرس بنظرة المحبة والغفران.
- في المحاكمة المدنية كم كان ألم سيدنا وهو يرى رؤساء الأمة، وهو في وسطهم سجين في قيود ليسلموه لحاكم أممي ويطلبون الحكم عليه بالموت. وكم كان قاسيًا على نفسه القدوسة قولهم لبيلاطس: «لو لم يكن فاعل شر لما كنّا سلمناه إليك»، لقد اتهموه باتهامات عديدة: أولاً أنه يفسد الأمة، وثانيًا أنه يمنع أن تُعطى الجزية لقيصر، وثالثًا أنه يقيم نفسه ملكًا.
- لقد تقاذفه هؤلاء الأشرار في ترحيلات مهينة، كم جاع ولم يطعمه أحد وعطش ولم يسقِه أحد، وعندما رجع إلى بيلاطس مرة أخرى بعد محاكمته أمام هيرودس كم تألم وهو يسمع صراخ الناس وهم يطلبون لصًا قاتلاً هدّامًا، وأما بالنسبة له فطلبوا أن يُصلب.
- كم كان مؤلمًا على نفسه أن يُجلد ويوضع إكليل شوك على رأسه ويُسلَّم ليُصلب، وكان من لعنات تلك العقوبة أن يحمل المذنب على ظهره الخشبة التي سيعلَّق عليها. يا له من عار أثقل وأقسى من كل شيء. وكانوا يفترسونه بنظراتهم بوحشية وكانوا يفتحون شفاههم عليه بالباطل ويهزون رؤسهم متكلمين عليه باستهزاء وسخرية. حتى المصلوبان معه شاركا في تعييره. لكنه وهو الرب العظيم لم يفتح فاه. ثم هؤلاء الأربعة جنود وتحت جذع الصليب أخذوا يقتسمون ثيابه وعلي قميصه ألقوا قرعة.
حقا كم تألم جسديًا، وكم تألم نفسيًا.. لكن رغم كل هذه الأهوال فلم تكن هذه الالآم أو تلك هي التي خلّصتنا. لكنها الآلام الكفارية التي سنتحدث عنها في مرة قادمة إن تأنى الرب في مجيئه.