في صباح أحد الأيام المُشرقة علي صعيد مصر، وعلى رصيف المحطة في المدينة الكبيرة، كان “ع.ص.”، وهو مؤمن حقيقي بالرب يسوع، يمشي مسرعًا حاملاً حقيبته ليستقل قطارًا متجهًا إلى الوجه البحري.
كانت الحقيبة بها ما يزيد عن ثمانين ألفًا من الجنيهات هي ثمن الطلبية التي أتفق عليها مع أحد المستوردين في بلدة العامرية بالإسكندرية.
استقل القطار، وكانت الرحلة هادئة ومريحة، إلى أن وصل إلى القاهرة. ومن القاهرة توجَّه إلى الإسكندرية، ثم استقل الميكروباص إلى العامرية.
جلس صديقنا وقد وضع حقيبته على ركبتيه، وأخذ يشكر الرب على عنايته وحفظة، آملاً أن يصل في الموعد المتفق عليه.
تململ الرجل الذي يجلس إلى جواره ثم قال له: لِمَ لا تضع حقيبتك على شبكة السيارة، ألا ترى أن السيارة مزدحمة بالركاب وهذه الحقيبة لا مكان لها هنا.
أسرع “ع” يعتذر إليه، وطلب من السائق أن يتوقف قليلاً ويتكرم فيضع الحقيبة علي الشبكة، فاستجاب له السائق ورفعاها.
وبعد أن تأكد الأخ أن السائق أوثقها جيدًا على الشبكة عاد إلى مكانه مرة أخرى.
وصلت السيارة إلى العامرية ونزل الركاب واحدًا فواحدًا، ونزل صديقنا، وهَمَّ بإنزال الحقيبة من شبكة السيارة فإذا به لا يجدها.
دارت الدنيا به، وتلفّت حوله بسرعة.. بعض الركاب كانوا قد ذهبوا لحال سبيلهم، وبعضهم ما زال واقفًا، غير أن الحقيبة لسيت بموجودة.
ملأ الخوف قلبه وسأل السائق بانزعاج عن حقيبته، فأجابه السائق قائلاً: سيدي أنت ترى أنني لم أغادر السيارة إطلاقًا. والآن أفعل ما بدا لك.
أنا لن أعارضك في شيء.
* هل يمكن أن تدلني على أقرب قسم شرطة؟
- بالطبع يا سيدي. تفضل معي. وانطلق السائق بالسيارة إلى قسم الشرطة، وهناك في قسم الشرطة قصَّ صديقنا على ضابط الشرطة مشكلته بالتفصيل. ثار الضابط في وجهه متهمًا إياه بالتلفيق.
حاول “ع” أن يشرح له الموقف غير أنه أشار إليه ليسكت وهو يقول بغضب: كفى كذبًا وتزويرًا. لقد سئمت هذه التمثيليات الساخرة. تحير “ع” ولم يعرف ماذا يفعل. وبعد محاولات عديدة وتدخل كثيرين حرَّر الضابط محضرًا للسيد “ع”.
وبعدها توجَّه إلى منزل المستورد الذي كان يقصده ليعقد معه الصفقة، وفي منزل ذلك المستورد حكى الأخ “ع” قصته المؤسفة. تأثر الرجل جدًا وأخذ يواسيه على ضياع هذا المبلغ الكبير ثم قدَّم له طعامًا ومكانًا مهيَّئًا للمبيت، غير أن صديقنا لم يستطع أن يأكل وإنما طلب من مضيّفه أن يسمح له بالصعود إلى سطح المنزل ليصلي إلى الله الذي يسمع صلاة المضطر، فسمح له.
بدأ الأخ “ع” يصلي بلجاجة إلى الرب بكلمات قليلة: يا رب.. ضع خوفًا شديدًا ورعبًا في قلب من استولى على الحقيبة.. دعه ينظر إلى النقود فيرتاع. دعه يتمنى التخلص منها في أقرب فرصة.
ظل “ع” يردِّد هذه الكلمات معظم ساعات الليل. لم يكن لديه كلمات أخري يقولها، لكنه كان يكرِّرها مره تلو الأخرى إلى أن انبلج الصباح.
في الصباح جاءه اتصال هاتفي على المحمول من أحد عملائه بمحافظة أخرى يقول فيها: اطمئن يا صديقي. أمانتك موجودة في حلوان وعليك أن تتصل برقم (....).
كاد “ع” يقفز من المفاجأة العظيمة فهتف قائلاً: كيف عرفت؟
- اتصل بي شخص لا أعرفه وسألني إن كنت أنا “ع.ص” فقلت له إني أعرفه، فكلفني أن أبلغك هذا الخبر.
في الحال اتصل صديقنا الفاضل بالرقم، فجاءه الصوت من بعيد: أنا فلان وعنواني هو كذا تفضل عندنا وأمانتك موجودة لدينا ومحفوظة بالتمام. في منزل ذلك الشخص سمع صديقنا قصة الحقيبة المفقودة كاملة. قال المضيف:
لقد كنا مسافرين بسيارة خاصة، وفجأة، وجدنا حقيبة فوق إطار سيارة على جانب الطريق. تشككنا في الأمر، ماذا تُرى تكون هذه الحقيبة؟! وبعد تردد فتحنا الحقيبة فوجدناها مكدَّسة بالأموال. ملأ الطمع قلوبنا فأسرعنا وأخذناها وانطلقنا في حال سبيلنا.
وصلنا حلوان في المساء، وقبل أن نتوجه إلى منازلنا، قسمنا الأموال بالتساوي علينا ونحن نكاد نرقص طربًا. وصلت منزلي ووجدت الكل نيامًا، فحفظت النقود في مكان أمين وأويت إلى فراشي قرير العين.
في الصباح أيقظتني زوجتي قائلة: ما هذه الحقيبة؟ إنها ليست حقيبتك.
أجبتها: نعم نعم يا زوجتي. أنتظري فأحكي لك..
وأخذت أحكي لها ما حدث. صاحت زوجتي: وهل تأخذ مالاً حرامًا.. كلا هذا لن يحدث أبدًا. إنها نار تسري في عظامنا وتأكل لحمنا. كيف نأكل نحن وأولادنا مال الغير. إنها ستجلب علينا لعنة رهيبة.
شعرت أنا أيضًا بالخوف، ولكنني حاولت أن أتماسك. فقلت: لا تخافي يا زوجتي.. صرخت في وجهي: لا أخاف؟! إنني أرتعب أرتعابًا. أسرِع واحضِر باقي المال من أصدقائك لتسلمه لصاحبه كاملاً.
قلت لها: كيف نعرف عنوانه؟ أجابت: لقد وجدت ورقة صغيرة وبها رقم تليفون ومطبوع عليها أسم “ع.ص” كما أن هناك قلمًا محفور عليه نفس الاسم. نتصل بهذا الرقم الذي على الورقة ربما يكون لصاحب الحقيبة أو لأحد أصدقائه.
قلت لها: لا داعي لكل هذا الخوف يا عزيزتي.
أجابتني وهي ترتجف: إنني خائفة كما لم أخف في حياتي أبدًا. لقد ملأ الرعب قلبي وأريد أن أتخلص من هذا المال حالاً وإلا فإنه سيجلب علينا ويلات رهيبة.
اضطررت أن أعترف لها بالحقيقة فقلت: إنني أصارحك بأنني أشعر بخوف شديد يباغتني. ولهذا فسأحضر باقي المال من الزملاء حالاً.
العجيب أنني عندما طلبت المال من الزملاء أعطوني إياه على الفور وهم يقولون: خذ هذا المال.. إننا نشعر بارتعاب شديد منذ دخل بيتنا.
وهكذا تسلم الأخ “ع” ماله كاملاً وقد اختبر اختبارًا عظيمًا. اختبر عناية الله الكاملة، وقدرته الفائقة، واستجابته المجيدة لصلاته، ولم ينسَ كيف استجاب الرب طلبته بنفس الكيفية التي طلبها وهي أن يخيفيهم ويرعبهم من هذا المال.
وهو يدعونا نحن أيضًا إذ نقرأ قصته، أن نجثو على ركبنا شاكرين متعبدين لذاك الذي يسمع صراخنا ولا يتوانى عن إنقاذنا.