السنين بخار والكتاب الجبار
ومَرّ عقدٌ من الزمان على أحلى مجلة محبوبة على قلبي وعلى قلوب عشرات الآلاف من الناطقين بالعربية في العالم أجمع. واليوم، ونحن نحتفل في هذا العدد التذكاري الخاص بمرور عشره أعوام على صدور هذه المجلة، كم أشكر الرب وأنا أشهد أنني تقابلت مع مئات، ولا أكون مبالغ إن قلت آلاف، ممن استفادوا استفادة عظيمة من هذه المجلة، والبعض منهم قد تغيّرَت حياته إلى الأفضل وصاروا خليقة جديدة، ثم ساروا «نحو الهدف»، الرب يسوع المسيح. ولكن يهمني جدًا في هذا العدد التذكاري أن أذكر لك قصه حقيقية، وبعد ذلك سأذكر لك المغزى من كتابتها في هذا العدد التذكاري.
قبل معركة “كرميا” الشهيرة في فرنسا، أخذ خادم إنجيل تصريحًا من القائد العسكري الأعلى بأن يوزع الإنجيل على الجنود الذين كانوا في طولون يستعدون للإبحار إلى ميدان المعركة. وفي اليوم الأول، اجتمع الجنود حول خادم الإنجيل، وكانوا يستمعون لبشارة الإنجيل الحلوة، عن تجسد المسيح وعن صليبه وكيف أنه بموته الكفاري كان البديل والحامل لخطايا كل إنسان يقبله، وعن قيامة المسيح المجيدة. كان البعض في تأثر شديد والبعض يهزأ. وعندما قال خادم الإنجيل: “من يريد أن يحصل على الإنجيل بثمن رمزي بشرط أن يقرأ فيه”، تقدَّم عدد كبير من الجنود وحصلوا على الإنجيل. وتقدم جندي وقال لخادم الإنجيل: “ولكن أنا ليس لدي نقود”. ردَّ الخادم: “هذه ليست مشكلة، لو كنت مشتاقًا أن تقرأ الإنجيل فسأعطيه لك مجانًا”. ومَدّ يده وأعطاه الإنجيل هدية. بعدما أخذ الجندي الإنجيل ظل يضحك ضحكات سخرية ويقهقه بأعلى صوته قائلاً لخادم الإنجيل: “لقد استطعت أن أخدعك، فليس لديَّ أية رغبة لقراءة هذا الكتاب، ولكني سأستفيد منه بأن أصنع من صفحاته سيجارتي المفضلة، وسألف التبغ في هذا الورق الفاخر”. فأجابه الخادم بجدّية وتحذير: “عزيزي لا تستهتر بكلمة الله، فمكتوب في هذا الكتاب في عبرانيين10: 31 «مخيف هو الوقوع في يدي الله الحي»، فمن فضلك إما أن تتعهد أن تقرأ هذا الكتاب، كما ذكرت لي، وإما أن ترده لي لأعطيه لجندي آخر يقرأه ويستفيد منه”. استمر الجندي المستهتر يضحك بطريقه تبدو هستيرية وهو يشير إلى خادم الإنجيل ويقول: “بالطبع لن أعطيه لك، أولاً لأنني سأصنع منه سجائري، ثانيًا حتى لا تفقد أنت نزاهتك، فهذه أول مره في حياتي أرى خادم إنجيل يغير كلامه”. ردَّ الخادم: “ولكنك أنت الذي غيّرت كلامك”. أجابه الجندي: “هذا شأني.. أنا لن أعطيه لك”. ومضى وهو يضحك ويسخر ليجهِّز حقيبته للسفر إلى ميدان المعركة. صلّى خادم الإنجيل لأجل هذا الجندي ليستخدم الرب هذا الإنجيل بركة له.
مر على هذا الموقف خمسة عشر شهرًا، وكان نفس الخادم يزور إحدى القرى بفرنسا، ولاحظ جنازة كبيرة وأمًا عجوز ثكلى تتقبل العزاء. ولما سأل، عرف أن ابنها دُفن في ظهيرة هذا اليوم. تقدّم إليها معزّيًا لها بكلمات قرأها من إنجيله. كانت مفاجأة للأم الحزينة عندما أخرج الخادم الإنجيل وبدأ يقرأ منه، وفى اندهاشها قاطعته وقالت له: “أرجوك انتظرني لحظه واحدة”. ثم دخلت بيتها، وبسرعة رجعت وفى يدها إنجيل يشبه تمامًا الإنجيل الذي كان يمسكه الخادم، نفس اللون والحجم، وواضح أنه من ذات الطبعة، ولكن جزءًا مقطوعًا منه. قدّمت الأم الإنجيل للخادم وقالت: “إن هذا الكتاب يشبه تمامًا الكتاب الذي تقرأ فيه!” ولما أخذ الخادم الكتاب من الأم، كان الجزء الباقي من الكتاب قد وُضعت تحت كثير من آياته خطوط، وكان واضحًا أنه دُرس جيدًا. وقد تأكد الخادم أن هذا الكتاب هو الذي أعطاه، في طولون، للجندي الذي قال إنه سيصنع من أوراقه سجائره، ليس فقط بسبب الجزء المقطوع من الكتاب، ولكنه وجد على غلافه الداخلي مكتوب “حصلت على هذا الكتاب في طولون، عام 1855 قبل معركة كريميا مباشرة. ولقد أخذت هذا الكتاب في البداية بسخرية واحتقار. وفى شري وخطاياي أخذته كذبًا من خادم الإنجيل مجانًا. ولقد صنعت من أوراقه لفائف التبغ التي دخنتها، حتى غيّر الله قلبي من خلال الجزء الباقي من هذا الإنجيل.. الإمضاء س.ل. فيوسيلر”.
تعجب المبشر وقال: “إنه بكل تأكيد هو الكتاب الذي أعطيته لابنك في طولون، وكما كتب في مذكراته، لم يكن يرغب في البداية في قراءته”. فقاطعته الأم قائلة: “ولكنك قلت له «مخيف هو الوقوع بين يدي الله الحي»”. سألها المبشر باندهاش: “وكيف عرفتِ هذا؟” أجابته: “لقد حكى لي ابني كل شيء قبل أن يموت. إن كلماتك هذه ظلت تدوي في ضميره، وفي بداية المعركة الحاسمة كان صدى كلماتك ما زال يتردد في أعماقه، وكم كان عذاب ضميره شديدًا لأنه استخدم جزءًا من الكتاب المقدس ليدخن سجائره، وارتعب طوال الليل، ولم يذُق النوم لحظة، ولا سيما أن عددًا كبيرًا من زملائه كانوا قد ماتوا. وبعد ذلك جُرِح هو أيضًا، وكانت حالته خطيرة، ونُقل إلى المستشفى فاقد الوعي. وسُمح لي بزيارته، ولما عاد إلي وعيه طلب مني أن أحضر له الإنجيل، أو بالحري الجزء الباقي من الإنجيل، من حقيبته. وحكى لي القصة، وقال لي إن الخوف الذي لحقه منذ أن صنع سجائره من ورق الإنجيل لم يفارقه لحظة، ولكن في الليلة التي لم ينم فيها قرأ في الجزء الباقي من الإنجيل الآية التي تقول: «دم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية» (1يوحنا1: 7). واعترف بخطاياه، وتمتع بسلام الله الكامل، وقرأ الجزء الباقي من الإنجيل أكثر من مرة. وعندما جاء هنا إلي القرية، منذ حوالي ستة أسابيع، كانت حالته خطيرة جدًا، وبالرغم من ذلك كان الفرح يملأ كيانه ويشع من وجهه. وكان دائمًا يعظنا من الجزء الباقي من الإنجيل؛ وأقول لك بكل صدق إنه ربما لا يوجد فرد واحد من أفراد قريتنا لم يسمع بشارة الإنجيل من ابني من خلال الجزء الباقي من الإنجيل، والبعض منهم قد تغيرت حياته فعلاً بسبب شهادة ابني الذي سافر اليوم إلي السماء”.
أجابها الخادم والتأثر يغمره: “نعم بكل تأكيد ابنك الآن في السماء مع المسيح، فما أعظم كلمه الله التي وحدها تخبرنا عن الطريق للسماء. ولكني أريد أن أسألك: هل ستتقابلين مع ابنك في السماء في يوم من الأيام؟” صمتت الأم والدموع تغمر عينيها وقالت: “أتمنى! ولكني لست جاهزة”. حدّثها الخادم عن المسيح وصليبه، وقبلت الأم المسيح مخلّصًا وفاديًا، واندلعت نيران نهضة عظيمة في هذه القرية.
صديقي.. صديقتي.. منذ عشرة أعوام وأنت تقرأ مجلة نحو الهدف، وربما تحتفظ بعشرات منها في مكتبتك، وربما بمجلداتها القيمة، لكن تُرى هل تغيَّرت حياتك أم لا؟ هل أنت نظير هذا الجندي الذي ظل فترة يستهتر بكلمة الله، أم نظيره بعدما صار مسيحيًا حقيقيًا وشاهدًا أمينًا للرب؟ أدعوك، وأنت تقرأ هذا العدد التذكاري، أن تبدأ حياة جديدة مع الرب، وأن تصلّي معي متذكرًا أن الحياة ليس بها عدد كبير من العقود (عشرات السنين):
صلاه: يا رب يسوع.. يا من ما زلت تبشر المساكين وتشفي المنكسرين وتنادي للمأسورين وترسل المنسحقين للحرية في سنة الرب المقبولة، حرّرني من قيود الخطية لأعيش شاهدًا لك بالتمام.. آمين.