«يداك صنعتاني وكوَّنتاني».. «قبلما صوَّرتك في البطن عرفتك» (مزمور119: 73؛ إرميا1: 5).
فهمنا في المرة السابقة أن الله العظيم، المحب الحكيم، له خطة عظيمة في حياة كل واحد من أولاده. وأنه قد سبق ورسم حياتنا طِبقًا لقصده الصالح، وذلك لخيرنا وسعادتنا، ولكي يتمجد هو فينا وبنا.
ولأننا، بحسب تكويننا الطبيعي، أبعد ما نكون عن هذا القصد، بسبب وجود الخطية والإرادة العاصية فينا، لهذا فإننا نحتاج إلى الكثير من المعاملات الإلهية التي تشكِّل في أوانينا لكي تصبح مناسبة للخطة الرائعة التي قصدها من جهتنا.
إإن كثيرين يشتاقون بإخلاص أن يعيشوا حياة مكَّرسة للرب، ويتوقعون أن تقترن بهذه النوايا الحسنة نهضة غير عادية في حياتهم، وأن يختبروا القوة والفرح والنصرة والنجاح. ولكنهم، بدلاً من ذلك، يجدون أنفسهم تحت معاملات يد الله القوية، وتحت ضغط وتشكيل أصابع الفخاري، وهم يتعرّضون لظروف معاكسة وتقلبات محيِّرة.
إن تقديم ذواتنا لله من معانيه الخضوع له ليُجري فينا عمله العجيب. وكما يفعل الخزاف مع كتلة الطين: إذ يفرغها من الهواء، ثم يتحسس طبيعتها من حيث الليونة والتيبس والتجانس، ثم يضعها على الدولاب، وتدور عجلة الدولاب، وهو بمهارة يديه يشكِّل الوعاء، والوعاء ينمو أمامه، فيترجم أفكاره ومقاصده إلى واقع. ثم يكمل عمله ببعض الرسوم والتلوين على الإناء. وأخيرًا يضعه في الفرن، تحت حرارة معينة ليكتسب صلابة ولتثبيت الألوان فلا تبهت مع الزمن. وبذلك يخرج الوعاء معبِّرًا عن روعة وإبداع الخزّاف. هكذا أيضًا يفعل معنا الله الحكيم: حيث تتوالى أحداث الزمن ونحن بين يدي القدير. مرة يضغط علينا بظروف من الخارج، ومرة تلامس أصابعه آنيتنا من الداخل. إنه بظروف إقتصادية، أو اجتماعية، أو عائلية، أو صحية، أو دراسية، أو بمعاملات وضغوط نفسية؛ يشكِّل في أوانينا. مرة يضغط بعمق، ومرة يلامس بحنان. والهدف في النهاية هو أن يصل بنا إلى الخضوع الكامل والتسليم لإرادته، وسنختبر حتما كَم هي صالحة ومرضية وكاملة. وما أجمل المؤمن الذي يصل بسرعة إلى هذا التسليم ويقول مع المرنم:
وليس غريبًا أنك لا تجد في المؤمنين نسختين طبق الأصل تمامًا. إذ أن الفخاري الأعظم يستطيع أن يخلق تشكيلة بديعة، تختلف فيها الآنية الواحدة عن الأخرى كما تختلف بصمات الأصابع. هذا التنوع العجيب يزيد من روعة القدرة الكامنة في يد الفخاري وعمق حكمته.
إنه كالطين بيد الفخاري هكذا نحن بين يدي الله الحكيم. مع الفارق أن كتلة الطين لا تملك إرادة ولا تستطيع الاعتراض على ما يفعله الفخاري. أما نحن، فبسبب الإرادة الذاتية والرغبات الطبيعية، فإن تجاوبنا مع عملية التشكيل أكثر صعوبة.
إن الله الذي صنعنا هو واحد، ولكن كل آنية لها إعدادها وتشكيلها الخاص الذي يجعل أهمية انفراد النفس بالله بطريقة شخصية ومباشرة شيئًا حتميًا.
إنه من السهل أن نقلِّد الآخرين الذين تأثّرنا بهم، ونلبس ثوب غيرنا. لكن يجب أن يعرف كل مؤمن أن خطة الله في حياته ليست هي خطة الله للآخرين. وأن ما يناسب غيره قد لا يناسبه إطلاقًا. كثيرون منا يفشلون في أن يدركوا أن الرب يريدهم كما هم، فهو الذي صنعهم بهذا التكوين وهذه الإمكانيات. وعلينا أن نقبل أنفسنا من حيث الشكل، ونوع الشخصية، والذكاء، والأسرة والإمكانيات المادية، والقدرات الطبيعية، والمواهب الروحية. فإن الذي صنعنا هكذا هو الله وهو يستخدم كل الظروف المحيطة لتشكيلنا «يداك كوَّنتاني وصنعتاني» (أيوب10: 8). وقد قال الرب لإرميا « قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدَّستك» (إرميا1: 5).
فعلينا يا عزيزي القارئ أن نسلِّم ذواتنا بين يدي الرب ونقول له مع المرنم:
شكِّلنَّ في إنائي ليس حسبما أريد
بل بروحك المُعزّي كيفما أنت تريد