“كل سنة وأنت طيب“ ”تعيش لكل سنة“ ”فاكر زمان“.
هذه العبارات، وغيرها، نسمعها ونردِّدها كثيرًا في مناسباتنا وفي احتفالاتنا الخاصة والعامة. وتتوالى السنون، وتشهد حياتنا العديد من المناسبات التي تعود فيها ذاكرتنا إلى سنين خَلت، لنذكر مراحم الرب الغزيرة في رحلة العمر القصيرة. نعم قصيرة.. فما أسرع ما مرّت الأيام والأعوام!
ففإذا جلست الآن قليلاً لترجع بذاكرتك إلى الوراء، فستذكر الكثير من الأحداث التي مرّت في حياتك؛ الهام منها والعابر، السعيد منها والحزين؛ منذ كنت طفلاً صغيرًا وحتى الآن. وفي كل مرة تشهد فيها حياتنا أحد المناسبات، نتذكر الماضي، ثم نهز الرأس أو نغمض الأعين ونتمتم ”ياااه.. الأيام بتجري“.
قال أيوب قديًما «أيامي أسرع من الوشيعة» (أيوب7: 6)، والوشيعة هي مكّوك نول النساجين، ولعلها أسرع ما رآه أيوب وقتها، فهي تسرع في الانتقال من هذا الجانب من النول إلى الجانب الآخر في لمح البصر إلى أن ينتهي الخيط الذي تحمله في ثوان معدودات. وهكذا تنتهي الحياة، كما قال حزقيا «لففت كالحائك حياتي. من النول يقطعني»(إشعياء38: 12).
فما أسرع ما تمضي حياتنا، إنها «كريح تذهب ولا تعود»« (مزمور 78: 39). فحريٌّ بنا أن نفكِّر، ونقرِّر سريعًا كيف ننفقها، قبل فوات الأوان.
كان وليم شابًا خجولاً، وُلد في بريطانيا سنة 1829» وكان يعاني من الفقر المدقع، لذا ترك المدرسة في الثالثة عشر من عمره لعدم إمكانية ذويه الإنفاق عليه. وقضى وقتًا طويلاً يعمل في صناعة الأحذية. وعندما مات أبوه، أخذ وليم يفكر جدّيًا كيف يواجه الموت. قضى وليم بعض الوقت في صراع قبل أن يفتقده الرب بنعمته. وبعد فترة من تعرّفه على المسيح كمخلِّص، زار بلدته أحد الخدام، وقد أخذ يشجِّع وليم على تكريس حياته للمسيح، وعلى أن يكلِّم النفوس البعيدة عنه. تأثر وليم بهذا الكلام، لكنه كان خجولاً، وربما كسولاً؛ فعاش فترة من الوقت بدون تكريس حقيقي. ثم قاد الرب وليم في رحمته لأن يفكر في الخسارة الفادحة التي يمكن أن تلحق به لو انتهت حياته على الأرض بدون أن يكرِّسها لله.
كتب وليم عن هذه الفقرة يقول: ”كنت مؤمنًا، وكان كل الأصدقاء الذين معي كذلك. كنا نقضي أوقاتنا معًا في الكنيسة أو في منازلنا، وكنا نتحدّث في كل شيء، وكنت أخدم بعض الخدمات في الكنيسة، وأعلِّم في مدرسة الأحد. وكنت أتأسف على الذين لا يواظبون مثلي على هذه الأمور. كانت محبتي للرب والنفوس البعيدة فاترة، فلم أكلِّف نفسي مؤونة البحث عن الخطاة، ولو أني سمعت الكثير من العظات والمناقشات عن كيفية عمل هذا.
وفي ليلة رأيت حلمًا - نتيجة انشغالي الدائم داخليًا بهذا الأمر - حلمت أن حُمى جامحة أمسكت بأوصالي، فصرت طريح الفراش بين ليلة وضحاها. أتى الأهل بأشهر الأطباء وابتلعت عشرات الأقراص، إلا أن هذا لم يُجدي نفعًا، واشتد علىّ المرض حتى فارقت الحياة
- في الحلم بالطبع - ورأيت في حلمي كيف حزن عليّ الجميع وبكوني بدموع سخينة، بل وكيف كانت جنازتي مهيبة. ثم قرأت في سجل الذاكرة كيف قضيت أيامي القليلة على الأرض، إذ انشغلت في معظمها بمآربي وأغراضي الشخصية. فصرفت حياتي في خدمة ذاتي؛ أو ما كنت أُسميه وقتها خدمة الرب. نعم، لم تكن سيرة حياتي إلا سجِلاً مخجلاً لإشباع رغباتي. أوَ ليست هذه حياة الكثيرين منا؟ بدت لي إذ ذاك صورة حياتي مخجلة، تعافها النفس. ثم رأيت في حلمي بعض معارفي ممن سبقوني إلى المجد، وتهيأ لي أنهم كانوا متشوقين أن يسمعوني أحدّثهم عن أقاربهم وأحبائهم الذين تركوهم على الأرض، وعن ما إذا كنت قد أوصلت لهم بشارة الإنجيل. وكم كنت خجلاً أنني لم أبذل أدنى جهد لكي أفعل ذلك. شعرت بالندم العميق الناشئ عن حقيقة أنني أضعت حياتي على الأرض عبثًا، في أتفه الأشياء. ومن شدّة خجلي رأيت أنني أحاول أن آخذ إذنًا بالسماح لي بالعودة إلى الحياة مرة أخرى. أعود إلى نفس المكان والحالة التي كنت عليهما على الأرض، لكي أبذل كل ما في وسعي لأغيّر خط سير حياتي، لكي أرضي سيدي“.
ببعد ما أفاق ”وليم بوث“ شكر الرب على أنه لم يكن إلا حلمًا، وأن الفرصة لا تزال سانحة أمامه لإكرام سيده. وقد اقتنصها وليم، فاستخدمه الرب لتوصيل بشارة الإنجيل إلى آلاف النفوس.
حياة واحدة
صديقى.. يتمنى الكثيرون أن يبدأوا حياتهم من جديد لو استطاعوا؛ ولكن أسفًا.. فلا توجد فرص للإعادة! أما ما في أيدينا فهو أن نكرم السيد في ما بقي من العمر؛ فهو يمضي سريعًا كالريح التي تذهب ولا تعود.
كتب رجل الله مودى شعارًا في كتابه المقدس يقول: ”ليس لي سوى فرصة واحدة أعبُر فيها هذه الحياة فكل عمل صالح يمكنني أن أعمله، أو شعور طيب يمكنني أن أظهره، ينبغي أن أتممه الآن فلا أهمل أو أؤجل، لأن هذه الفرصة لن تعود ثانية“.
كما كتب أيضًا يقول ”سأعمل كل ما أستطيع، لجميع الناس، وبكل الطرق، في كل وقت أحصل عليه. فلو أن كل واحد عمل شيئًا للمسيح، واستمر مواظبًا على ذلك 365يومًا في السنة؛ فسنربح الكثيرين للمسيح“.
تقول إحدى الترنيمات الإنجليزية:
ليس لنا نحن هنا، إلا حياة واحدة
كالظل تمضى مسرعة
فلا يظل معنا طول الحياة الخالدة
إلا الذي من قَلبِنا، لربنا، قد صنعنا
صديقي صديقي.. عما قريب سوف نقف أمام كرسي المسيح ليقدِّم كل واحد حسابًا عما فعله بالجسد؛ حينئذ سوف يكتشف الكثيرون أنهم أضاعوا حياتهم عبثًا فيما لا يفيد أبديًا، وسيطيب لهم آنذاك أن يتنازلوا عن العالمين، لو كانت مِلكًا لهم، مقابل إعادة حياتهم مرة أخرى لكي يصيروا أكثر أمانة وتكريسًا للرب.
حياة وحيدة مسرعة..
فهل تستغلها؟!