استراح الجيش الفرنسي في خيامه بعد معركة عظيمة، وكان في انتظار معركة أخرى في اليوم التالي. ولكن الإمبراطور «نابليون بونابرت»، والذي كان يقود الجيش بنفسه، كان يعلم أن جيوش الأعداء مرابطة على مسافة قريبة منه؛ فلم يهدأ الرجل، ولم يستطع النوم، فخرج ومعه أحد ضباط جيشه ليتفقد أحوال المعسكر، وليرى هل الحراس يقظون في حراستهم أم لا. وإذا به يجد حارسًا غارقًا في النوم، وهذه جريمة أجرتها الموت. ولكن الإمبراطور رَثى لحال الحارس وأشفق عليه، وبدل أن يصدر عليه حكم الموت، انحنى إلى الأرض، وحمل سلاحه الذي كان قد سقط منه، ووقف مكانه حتى مطلع الفجر.
ولما استيقظ الحارس ووجد الإمبراطور واقفًا بجانبه، ارتعب من الخوف، وتحقق من موته. ولكن الإمبراطور رَبَتَ على كتف الحارس برقة وعطف، وقال له بمحبة وحنان: هوِّن عليك يا ابني ولا تخف، فقد وقفت مكانك، وما كنت أطلبه منك قد عملته بالنيابة عنك؟
عزيزي.. هذا هو نفس ما عمله الله معنا!! نحن أخطأنا وأثمنا وفعلنا الشر، وكنا نستحق الموت والعذاب الأبدي، محكومًا علينا بعقوبة أبدية نقضيها في بحيرة النار والكبريت لننال فيها بعدل استحقاق ما فعلنا (لوقا23: 41). ولم تكن هذه العقوبة عن خطية واحدة، كلا، بل لأجل خطايا كثيرة وآثام لا تُحصى ارتكبناها ضد الله (مز51: 4). ولكني نظرت وإذ بابن الله «ربي وإلهي» يأتي إلينا ويقف مكاننا - مكان المذنوبية والدينونة - أمام عدل الله، ويحمل في جسمه على خشبة الصليب كل عقوبة خطايانا، وكل قصاص نستحقه كأجرة لآثامنا. «كلنا كغنم ضللنا مِلّنا كل واحد إلى طريقه. والرب وضع عليه إثم جميعنا» (إشعياء53: 6). فهو - له كل المجد - «الذي حَمَلَ هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة، لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر. الذي بجَلْدَتِهِ شُفيتم» (1بطرس2: 24).
نعم.. لقد تألم سيدي عند الصليب آلامًا جسمانية لا تُوصف من يد الإنسان، محتملاً آلام الجلد والشوك واللكمات واللطمات والبصق على وجهه والمسامير. ولئن كانت هذه الآلام قاسية، ولكن لا دخل لها في فدائنا. فإن أشد أنواع الآلام التي قاساها المسيح على الصليب هي آلامه المباشرة من يد العدل الإلهي، تلك الآلام الكفارية التي فيها وحدها خلاصنا. كان يجب أن يُشوى «خروف الفصح» بالنار، صورة لما تحمّله المسيح لأجلنا من نيران عدالة الله. فعند الصليب، أرسل الله نارًا إلى عظام المسيح فَسَرَتْ فيها (خروج12: 8؛ مراثي1: 13). فلم يَمُت المسيح على الصليب كشهيد، لكنه مات كبديلٍ وفادٍ!
إنه - تبارك اسمه - عندما اُقتيد خارج الأسوار ليُصلَب، كان في الحقيقة يحمل ثقل خطايانا ولعنتنا. لقد عبر المسيح طريق الصليب كبديل عنا وكممثِّل لجنسنا الساقط. وفي ساعات الصَلب المُرّة جدًا، تقابل الله البار الديان مع مَن يحمل «إثم جميعنا»، مع البديل الذي وُضعت على رأسه كل أنواع الخطايا. تقابل الله مع الفادي الذي - طوعًا واختيارًا - بذل نفسه عن الخطاة، فصبّ الله عليه الغضب صبًّا، فذاق من يد الله كأسًا أشد مرارة من العلقم، لا تُوصَف ولا يُعبَّر عنها بلغة الناس. ومن هنا أصبح مفهومًا لماذا ارتضى الآب الأزلي أن يسلِّم الابن الوحيد إلى عذاب وألم لم يُسمع عن نظيره. وعلى هذا الاعتبار لم نرَ أحدًا من ملائكة الأعالي يُسرع لخدمته، ولم تسقط نار من السماء لتأكل قاتليه.
وإن كانت كل الظروف التي اجتازها المخلِّص رهيبة ومذهلة بحق، لكنها كلها اتحدت لتثبت هذه الحقيقة بكل تأكيد: هوذا الرب يسوع بديلاً عن الخطاة الآثمين «وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحُبُرِهِ شُفينا» (إشعياء53: 5).
أيها الأحباء.. لقد كان الصليب بحق هو مكاني ومكانك وارتضى المسيح أن يعتليه لأجلي ولأجلك. وهناك أُخِذَ البار عوضًا عن الأثيم، لكي يُقبَل الأثيم في البار «فإن المسيح أيضًا تألم مرة واحدة من أجل الخطايا، البارّ من أجل الأثمة؛ لكي يقرِّبنا إلى الله» (1بطرس3: 18). فخطايانا هي التي أتت بالمسيح إلى الصليب، والمسيح هو الذي أتى بنا إلى الله!
لقد أخذ - له كل المجد - مركزنا بكل نتائجه الرهيبة، لكي نأخذ نحن مركزه بكل نتائجه المجيدة. ولقد حُسب هو المذنب لكي نُحسَب نحن متبررين. تركه الله لكي يقبلنا نحن. صار وسط ساعات الظلمة لكي ينقلنا إلى النور الأبدي. وعلى الصليب وقع عليه كل ما كان ضدنا. وفوق خشبة العار احتمل ما كان علينا لكي لا يبقى علينا شيئًا على الإطلاق. واجه الدينونة والموت فناب عنا فعلاً لكي نتمتع نحن بالبر والحياة الأبدية. شرب كأس الغضب، وتجرّع غُصص الهوان لكي نتناول نحن كأس الخلاص الأبدي ونرتوي من فيض محبة الله وغنى نعمته.
بالاختصار: أخذ المسيح على الصليب ما نستحقه نحن، لكي نأخذ نحن ما استحقه. ولم ينزل المسيح من على الصليب إلا بعد أن قال «قد أُكمِل» (يوحنا19: 30)، فسدّد لعدالة الله حقوقها، وتمم للناموس مطاليبه، ودفع أجرة الخطية بدلاً عنا، ولم يبقَ على الخاطئ الأثيم الذي يريد أن يتبرر إلا قبول عمل المسيح لأجله.
أيها القارئ العزيز..
هل فهمت معنى الصليب؟
هل تعرّفت بالمصلوب باعتباره بديلك ونائبك؟
هل عرفته باعتباره مُخلِّصك وفاديك؟
هل تعرفه باعتباره ربّك وسيدك؟
هل تمتعت بهذه النعمة الغنية المتفاضلة؟