كان الرسام الألماني الشهير “ألبرت دورر” (1471 - 1528م) يعيش حياة صعبة في شبابه، وكان يسكن مع صديق له. وكان هذا الصديق أيضًا رسام. وإذ كان يعوزهما المال، قرّرا أن يقوم أحدهما بالعمل ليوفر القوت الضروري لهما، بينما يتفرغ الآخر لفنه ولوحاته، على أن يتبادلا العمل بعد فترة.
وجد الصديق عملاً في أحد الفنادق، فكان عليه أن يقطع الأخشاب، وينظّف الحديقة من الأعشاب، ويُحضر الماء، ويكنس المكان، ويساعد في أعمال المطبخ والصيانة. وأثناء ذلك الوقت كان ألبرت يرسم لوحاته. وما أن انتهى من لوحاته هذه حتى طلب من صديقه أن يعود إلى عمله كرسام على أن يعمل هو في الفندق. ولكن كم كانت صدمة شديدة تنتظره! لقد اعتادت أصابع الصديق على العمل الشاق. وبالتالي لم يعد قادرًا على الرسم الذي يحتاج إلى أصابع رقيقة وأنامل مرهفة.
وذات مساء، عاد ألبرت دورر من الخارج، فوجد صديقه جاثيًا على ركبتيه يصلي، رافعًا يديه المعقودتين نحو الله. تأمل ألبرت اليدين المرفوعتين، فاضطرب، وقال لنفسه: “يجب أن يعرف العالم كله ما فعله صديقي لأجلي” ثم رسم على لوحة شهيرة له، هاتين اليدين اللتين ضحّتا من أجله.
هنا صديق يُكرم صديقه.
وفي إحدى قاعات المعهد الطبي في ليفربول، يوجد نموذجًا ليدي إنسان، هما يدا جراح عظيم، صنع بهما أعجب العمليات الجراحية الكبيرة. ومهارة هاتين اليدين أنقذتا حياة الكثيرين من مرضى ومصابين هناك. وعندما أرادوا أن يذكروا فضل هاتين اليدين، لم يصنعوا لصاحبهما تمثالاً، ولم يعلقوا له صورة ضخمة، ولكنهم صنعوا لهاتين اليدين نموذجًا أحاطوه بالكرامة كتذكار يتحدث عما فعلت هاتان اليدان من إعجاز وإبداع.
هناك بشر يُكرمون بشرًا.
ولكن أنظر ماذا فعلت يدان أخرتان. يدان جميلتان كريمتان، بل أجمل يدين قدّمتا الإحسان لبني الإنسان، ولم تُمسكا عن العطاء لكل سائل. اليدان اللتان شفتا المرض، وطهرتا البُرص، وأقامتا الموتى، ووهبتا البصر للعميان. يدا المحبة والعطف اللتان احتضنتا الأطفال، وغسلتا أرجل التلاميذ، وباركتا الخبز وأشبعتا الآلاف. اليدان اللتان رُفعتا في الصلاة على الجبل وفي بستان جثسيماني، وأخيرًا سُمرتا وانسحقتا على الصليب لأجل الآخرين، واحتملتا آلامًا مُبرحة لكي تخلِّص الخطاة، ولم تزل مبسوطتين للستر والعون والإنقاذ. إن أثر المسامير فيهما يشهد عن محبته، محبته التي ضحّت لأجلك ولأجلي.. يدان مثقوبتان ظاهرتان للملا.. يدان تهديان إلى منازل العلا.. يدان تتحدثان عن المخزول والمهان.. يدان تناديان كل مُتعب وعانٍ..
ونحن نذكر أنه في المرة الأولى التي تقابل فيها الرب مع التلاميذ، وهم مُجتمعون في العُلّية بعد قيامته، مُعلنًا نفسه لهم، مقنعًا إياهم أنه هو هو، جاء - تبارك اسمه - ووقف في وسطهم، وأثار انتباههم إلى يديه ورجليه، قائلاً: «انظروا يديَّ ورِجليَّ: إني أنا هو!... وحين قال هذا أراهم يَدَيهِ ورِجْليه» (لوقا24: 39 ،40؛ يوحنا20: 20). إنه لم يُشر بكلمة إلى ملامح وجهه أو إلى عينيه وشفتيه، بل أشار لهم إلى يديه ورجليه، ليس لأن هاتين اليدين قدّمتا كل أعمال نعمته وامتدّتا كثيرًا بالشفاء إلى كثيرين، أو لأن هاتين الرجلين حملتاه كثيرًا إلى المحتاجين، بل لأن يديه ورجليه كانت تحمل آثار جروح الصلب والموت في الجلجثة. يداه ورجلاه كانت تنطق بآلامه الكفارية، وتقدّم الدليل على ثمن الخلاص الذي دُفع. إن آثار جراح الصليب وعلامات ذبح «حمل الله» كانت بعد باقية فيه، وثلاثة أيام القبر لم تقوَ على ملاشاتها.
وفي المرة الثانية التي تقابل فيها الرب مع تلاميذه، بعد ثمانية أيام أخرى «قال لتوما: هات إصبعك إلى هنا وأبصر يَديَّ، وهات يَدك وضعها في جنبي» (يوحنا20: 27). والمعنى في ذلك أيضًا أن آثار جراح الصليب؛ أثر المسامير والحربة، لم تزل باقية، وثمانية أيامٍ أخرى لم تقوَ على ملاشاتها.
وبعد ذلك دخل الرب إلى الأقداس بجسده المُقام والممجد، دخل ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا، «بدم نفسه دخل » (عبرانيين9: 12). لأن «إله السلام الذي أقام من الأموات راعي الخراف العظيم، ربنا يسوع، بدم العهد الأبدي» (عبرانيين13: 20). ومع أن الدم نفسه كان قد سُفك على الأرض، إلا أن قيمة سفك وعلامات سفكه ما زالت جميعها باقية في شخصه، لأنه «بعدما قدَّم عن الخطايا ذبيحةً واحدةً، جلس إلى الأبد عن يمين الله» (عبرانيين10: 12).
وبعد أن تنتهي الكنيسة من مرحلة غُربتها على الأرض وتدخل المجد، سيراه المفديون هناك في وسط العرش «كأنه مَذبوحٌ» (رؤيا5: 6). وبعد ذلك «يأتي مع السحاب، وستنظُره كلُّ عينٍ، والذين طَعنُوهُ، وينوح عليه جميع قبائل الأرض» (رؤيا1: 7). معنى ذلك أنه عند ظهوره للعالم للدينونة والملك، ستكون علامات الصلب والموت باقية فيه. وعندما ينزل إلى الأرض «يقول له (كل ناظر إليه): ما هذه الجروح في يديك؟ فيقول هي التي جُرِحتُ بها في بيت أحبائي» (زكريا13: 6). ويدل ذلك أيضًا على أن علامات الصلب ستظل باقية فيه إلى أبد الآبدين، لأنه راعي الخراف العظيم المُقام بدم العهد الأبدي، العهد الدائم البقاء، لأنه قائم على الدم، والدم باقٍ بقيمته، كما علامات سفكه في جسد الرب، أمام الله إلى أبد الآبدين.
أيها الأحباء... إن هذه الجروح هي ذكرى حروب الرب، وهي أيضًا نيشان نصرته يوم أن هزم الشرير وفدى لنفسه جمعًا لا يحصيه أحد. فإن كان المسيح هكذا يحتفظ بذكريات آلامه من أجل شعبه، فكم علينا أن نعزّ ونُكرِّم تلك الجروح؟! وكم علينا أن تنشغل قلوبنا دائمًا بهاتين اليدين المثقوبتين اللتين ما زالتا مملؤتين من النعمة والبركة كما كانتا عند قيامته؟! يَدَهُ المثقوبة تنطق بالحبِ تمسحُ أحمال الإثمِ عن القلب يَدَهُ المثقوبة تحكي عن نعمةِ تترأف تُبدي للخاطئ رحمةِ يَدَهُ المثقوبة.. يده المثقوبة يَدَهُ المثقوبة تنزفُ تدعوكَ وبقلب الرحمة تصرخُ ترجوكَ أسرع أبوابُ الرحمةِ مفتوحة ادخل مِنْ كف الابن المجروح يَدَهُ المثقوبة.. يده المثقوبة