عرفته منذ سنوات خَلَت، لم يكن هو النموذج الأمثل للطالب المجتهد، ولكني تعلمت من مراقبته دروسًا نافعًا، وبالأخصّ في أيام الإمتحانات.
فعلى الرغم من أن صديقي كان في أحد الكليات التي تستلزم قدرًا وافيًا من الاجتهاد، إلا أنه لم يكن ينتبه لذلك مبكرًا.
فتجده في بداية عامه الدراسي لا يكاد يحفل بكونه طالبًا “فالدنيا لن تطير” كما كان يدّعي. فكارنيه الكلية يستطيع أن ينتظر حتى يهدأ الزحام على شبابيك دفع المصروفات. أما المحاضرات فلا داعي للاستعجال عليها، وعمومًا فهي ليست أكثر من “معلومات تُنتقل من أوراق الأساتذة إلى كشاكيل الطلبة المساكين دون أن تترسخ في عقل أي منهم” (هكذا كان يعرِّفها). وأما “السكاشن” فيا حبّذا لو صبرت قليلاً حتى يستيقظ من نومه، فما الداعي للعجلة!!
وينشغل صديقي بالعديد من الأنشطة الأخرى فلا يستذكر إلا لمامًا.
وتمر الأيام، ويطوي الزمن صفحاته سريعًا؛ ويتذكر صديقي أنه مطالَب بالنجاح والفلاح. وعليه أن يبدأ المذاكرة قبل أن “تكبس” عليه الامتحانات، ولكن سرعان ما كان “يكبس” عليه النوم دون أي إنجازٍ يُذكر. وهكذا حتى يفاجأ بأنه قد مرّ من العام الدراسي أكثره، ولم يتبقَّ من الوقت إلا القليل!
ويختلف سلوك صديقي تمامًا في هذه الأيام الأخيرة من العام. فالامتحانات على الأبواب وهو ليس بمستعد. فيسرع في جمع المراجع والأوراق، فيهوله كَمّ المعلومات التي عليه أن يحشوها في رأسه.. لقد تأخر كثيرًا.. فعليه أن يبذل ما في وسعه وأن لا يضيّع ساعة واحدة.
أما ذروة الاستعداد فكانت في ليلة الامتحان. ففي هذه الليلة يختلف الأمر كثيرًا. وما كان قبل هذه الليلة مُتاحًا بل ومطلوبًا، قد صار في هذه الليلة محظورًا.. فأي أحمق، في هذه الليلة الأخيرة، يضيّع الوقت في أشياء لا تُجدي نفعًا. فليس الأمر في أنها خطأ أم صواب، بل الأمر ببساطة أنه لن يفعل إلا ما يراه مناسبًا لمساعدته في اجتياز الامتحان ناجحًا متفوقًا، فهو لن يفكر في أي أمر آخر. فهو لا يطمع في هذه الليلة إلا في رضا الممتحِن عليه ليمنحه تقديرًا حسنًا. لذا فعليه أن يصحو ويسهر ليستعد، ولا ينام كالباقين الذين لا امتحانات عندهم. وهكذا يلصق صاحبي بكرسيه حتى يصيرا واحدًا، باذلاً أقصى جهده، واضعًا أمام عينيه منبِّهًا عتيقًا يُذكره بكَم بقي من الوقت على ساعة الامتحان. وعلى قدر ما كان الوقت يقرُب على قدر ما كانت للثواني قيمتها الكبيرة في نظر صديقي..
فإذا سألته.. لماذا لم تبدأ المذاكرة مُبكِّرًا إذاً ما دمت مهتمًا بالنجاح إلى هذ ا الحد؟ أجابني قائلاً: ليتني بدأت قبل ذلك بكثير، ولكن اذهب عني يا صديقي، ولا تعطّلني.. ودعني استغِلّ ما بقي من الوقت بأفضل شكل ممكن.
كان صديقي يعمل حسابًا.. ألف حساب للحظة الامتحان، وكان أكثر ما يؤرقه يوم الامتحان الشفوي الذي سيواجه فيه من يحاسبه على سنة ماضية.. ويحدّد تقديره، ويخبره إن كان قد أحسن.. أو أهمل.. لذا فكلما اقترب الامتحان، كلما بذل جهدًا أكثر لمحاولة اجتياز امتحانه متفوقًا، مرضيًا عليه من ممتحنيه.
عزيزي القارئ.. فلتلُم صديقي كما تشاء لأنه بدأ الاستعداد متأخرًا، ولأنه لم يعمل حساب هذه اللحظة المهمة من أول العام. وأنت مُحِقّ في لومك له، فهكذا كان ينبغي أن يفعل. ولكنني أريدك أن تُفكِّر في موقف آخر أنت مُطالَب أن تستعد له جيدًا، وبالأكثر على قدر ما ترى الوقت يقرُب.. أعني به الوقت الذي سيقفه كل مؤمن حقيقي أمام سيده لكي ينال كل واحدٍ ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيرًا كان أم شرًا (2كورنثوس5: 10)
فمالنا لا نعمل حسابًا، بل مليون حساب، لهذا الوقت الفائق الأهمية أكثر من أي شيء آخر؟
أم أننا لا نؤمن يقينيًا أن نهاية كل شيء قد اقتربت، أو كأننا لا نعتقد اعتقادًا جازمًا أننا سنقف (سنواجه) هذا الموقف قريبًا.
سيظهر يا صديقي في هذا اليوم إن كنت قد استعددت جيدًا أو أنك أضعت وقتك في أمور لا فائدة منها ولا طائل من وراءها.
فعمل كل واحد سيصير ظاهرًا، لأن اليوم سيبيّنه وسيَمتحِن النار عمل كل واحد ما هو. وسيظهر إن كنت قد بحثت عن مجد الله من القلب، فبنيت ذهبًا فضة حجارة كريمة، أم لم تفعل فبنيت خشبًا عشًا قشًا (1كورنثوس3: 12-14). وإن احترق عملك فستخسر كثيرًا.
مما لا شك فيه أن المؤمن الحقيقي لن يخسر أبديته، لكنه سيخسر رِضا السيد عليه، ولن يسمع مديحه الذي يتمناه جميع الأُمناء، والذي لأجله يبذلون كل تعب واجتهاد فيضعون حياتهم على أكفهم مخاطرين حتى بأنفسهم (فيلبي2: 30)، لكي لا يفوتهم أن يسمعوا من الرب قوله لهم «نعِمًّا أيها العبد الصالح والأمين» فكم سيكون خجل غير المستعدين من المؤمنيين، إذ لا يحظون بمثل هذا الرضا ويخسرون مثل هذا المديح (1يوحنا2: 28).
نعم سيكون وقوفك لا أمام ممتحن أرضي يمتحن معلوماتك الزمنية القليلة القيمة، ولكن أمام الرب الفاحص القلوب الذي سيسألك أن تعطي حساب وكالتك (لوقا16: 2). سيسألك أن تُعطي تقريرًا عما فعلت بحياتك ووقتك، كيف تصرفت في ما ائتمنك عليه من وزنات ومواهب.
لقد أُعطيت صحة ووقتًا، شبابًا ومالاً، قوة وطاقة، ففيمَ أنفقت هؤلاء جميعًا؛ هل لأجل لذّتك ومنافعك الشخصية، أم كنت تنفِق وتُنفَق لأجل ما هو ليسوع المسيح (فيلبي2: 21).
ثم ماذا تفعل بجسدك الذي هو هيكل الروح القدس؟ (1كورنثوس 3: 17؛ 6: 19)؛ هل تركت ذهنك مرتعًا لأنجس الأفكار، أم حفظت نفسك من كل دنس الجسد والروح (2كورنثوس7: 1)؟
لقد اؤتمنت على رسالة الإنجيل؛ فماذا فعلت بها، هل شاركت الآخرين بأخبار الإنجيل المخلّصة، ومن قِبَلك قد أُذيعت كلمة الرب (1تسالونيكي1: 8).
وإذا كنت تعلم أن نهاية كل شيء قد اقتربت، فكم من الوقت تقضي مصلّيًا منكسرًا أمام الرب؟ مالنا نائمين لا نريد أن نتعقل ونصحو للصلوات. إنه الوقت لأن نصلّي كما لم نُفعل من قبل (1بطرس4: 7).
وإن كنا نؤمن يقينًا أن يوم الرب سيأتي قريبًا وفيه تزول السماوات وتنحل العناصر محترقة وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها (2بطرس3: 10)؛ فمالنا قد وضعنا كل رجائنا في أمور العالم الفانية. أليس هو الوقت لأن نكون في سيرة مقدَّسة وتقوى؟
صديقي ألم يحن الوقت لأن نؤمن أن الوقت يقرب جدًا!