كم من المرات راودتني أحلام الطفولة وأنا بعد صغير؛ فحلمت أنني أمتلك ذلك المصباح الذي تحكي عنه الأساطير: ما عليك إلا أن تمسح عليه بيدك فيخرج لك منه مارد جبار، ينحني لك في خضوع ويخبرك أنه طوع أمرك فيما ترغب أو تشتهي عيناك، ولو طلبت كل ممالك العالم لأحضرها لك في الحال. نعم حلمت بذلك المصباح الخيالي، وما كنت لأطلب من هذا المارد إلا بعض الحلوى أو الثياب أو الآيس كريم، فقد كانت أحلامي آنذاك متواضعة بسيطة. وعندما صرت صبيًا أيقنت أنه لا بد لي من مارد كهذا ليحقِّق لي أحلام المراهقة الجامحة، فهو السبيل الوحيد للحصول على النقود الكثيرة التي أتمنى الحصول عليها لأشتري بها ما تشتهيه عيناي، فلعله يحوِّل لي كل حجارة الشارع إلى فضة أو كل ذرات التراب به إلى عملات ذهبية، أو عله يرأف بحالي فيحول لي العجلة الخضراء التي أركبها إلى سيارة فارهة. ولكني علمت، فيما بعد، عن رجل عظيم امتلك ما يغنيه عن عشرة مردة كهذا الذي في خيالي؛ فقد صرَّح هذا الرجل قائلا «مهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما» (جامعة2: 10)، فما وقعت عيناه على شيء واشتهاه إلا وسارع في تنفيذه - بدون الحاجة إلى مارد أو مصباح - سعيًا وراء السعادة والمتعة.
لم يمتلك هذا الرجل شقة أو عمارة أو حتى قصرًا واحدًا، بل لقد بنى لنفسه بيوتًا، أو قُل قصورًا عظيمة، أحاطها بحدائق غنّاء تحوي كل أنواع الأشجار المثمرة، وبرك المياه الجميلة.. لقد عمل لنفسه جنّات وفراديس. وكان لديه المئات من الخدم الذين يقومون على خدمته وراحته. وحدِّث ولا حرج عن الحظائر الملكية التي حوت أعدادًا لا تُحصى من القطعان والماشية. وفوق ذلك امتلك من الخيل ما يكفي لملء أربعين ألف مزودًا. وقد كان طعام مائدته في اليوم الواحد يتكون من ثلاثين ثورًا ومائة خروف ومئات الغزلان والظباء واليحامير والأوز المسمَّن.
أمأما ما أمتلكه من الثروات فهو مهول؛ فلقد كانت الفضة في أيامه ليست ذات قيمة، بل كانت مثل الحجارة في الكثرة. وكان وزن الذهب الذي حصل عليه في عام واحد حوالي 666وزنة ذهب (يقدّره البعض بأكثر من 24ألف كيلو جرامًا من الذهب) (1ملوك10: 14،27).
وقد عنى صاحبنا، أو قُل هذا الملك العظيم سليمان، بأن يرفِّه عن نفسه بكل الوسائل المتاحة في عصره؛ فإن لم يمتلك تليفزيونًا أو “دِشّ” إلا أنه أحضر لنفسه في قصره كل أنواع الموسيقى والطرب والمغنيين والمغنيات، عَلّه يشعر بالبهجة والسعادة التي ينشدهما. ولم يكن ينقص سليمان الصحبة الجميلة؛فقد تزوج بسبعمائة واتخذ له ثلاثمائة من السراري. كما لم يكن ينقصه الحكمة والمعرفة؛ فقد كان عالِمًا قديرًا وفيلسوفًا خبيرًا، كما كان شاعرًا وأديبًا لا يُبارى، وقد تكلم بثلاثة آلاف مثل وكانت نشائده ألفًا وخمسة، وكان جميع ملوك الأرض يأتون ليسمعوا حكمة سليمان (1ملوك4: 30-34). لقد حاول سليمان الملك أن يتمتع بالحياة أكثر مما فعله أي إنسان آخر؛ ولكنه انتهي إلى نتيجة ما أغربها:
“فكرهت الحياة” (جامعة2: 17)!!
إنه يعترف أنه، بعد كل ما عمل وبنى ودرس وأنفق وتزوج وأنجب، وبعد كل محاولاته لأن يتمتع بالحياة؛ لم يصِر إلا تعيسًا كئيبًا.. مُقِرًّا بأنه: باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح (أو انقباض الروح) ولا منفعة تحت الشمس.
أوَ تدري، صديقي القارئ العزيز، ما السبب الذي لأجله لم يستطع سليمان الحكيم أن يتمتع بالحياة أو يحبها أو حتى يفهمها؟ لقد جرّب وامتلك ما لم يتصوره عقل: المتعة الجسدية، والدراسات الفلسفية، امتلاك الثروة، وممارسة السلطة والقوة؛ ولم يتمكن أي من هذه الأشياء من أن يمنحه شعورًا بالشبع الحقيقي! فلماذا؟!
السبب أنه لم يبحث عن معنى أو هدف للحياة إلا فيما هو “تحت الشمس”، ومن وجهة النظر البشرية، كما أنه تساهل مع الخطية وعصى الوصايا الإلهية بزواجه من نساء كثيرات من شعوب غريبة أملن قلبه وراء آلهة غريبة، فلم يكن قلبه كاملاً أمام الرب؛ فامتلك كل شيء ما عدا البركات الإلهية، فصار تعيسًا، وكَرِه الحياة.
&n وعلى النقيض من ذلك يخبرنا الرسول بطرس روشتة ناجحة في كيفية حب الحياة:
»من أراد أن يحب الحياة ويرى أيامًا صالحة، فليكفف لسانه عن الشر وشفتيه عن أن تتكلما بالمكر، ليعرض عن الشر ويصنع الخير«(1بطرس 3: 10،11).
صديقي.. ليس من الخطإ مطلقًا أن تتمتع بالحياة - فالله الغني الجواد يبغي أن نكون هكذا؛ وهو الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتع (1تيموثاوس 6: 17) - ولكننا نضِلّ كثيرًا إذا بحثنا عن السعادة والمتعة فيما هو تحت الشمس.
يؤكد لنا التاريخ والواقع، في عشرات من حالات انتحار الأغنياء والفنانين، صدق هذه الكلمات. كتبت إحداهن قبل انتحارها تقول: “سامحوني لقد حاولت أن أبحث عن معنى لحياتي فلم أجد. لم أعد أطيق الحياة”.
لقد اختبر سليمان، ومن وراءه ملايين الباحثين عن السعادة والمتعة فيما هو تحت الشمس، صدق قول الرب الكريم إن “كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا” (يوحنا4: 13).
فإن أردت أن تحب الحياة وأن تعيش متمتعًا بها وترى أيامًا طيبة وصالحة، فلتطلب من الله حرية حقيقية من كل عبودية للخطية أو العالم؛ ولتعش في طاعة دائمة لوصايا الله.. لا تنطق إلا بالخير، وصلِّ أن يحفظك الرب من الشر حتى لا يتعبك. وستعرف حينئذ معنى المتعة والسعادة وحب الحياة!