تولّى أحد ضباط الصف قيادة مجموعة من المُجنَّدين كُلِّفت بإنشاء بعض التحصينات العسكرية في أثناء الثورة الأمريكية. فكان يصرخ ويزجر، بغطرسة وتصلُّف، وهو يُلقي بأوامره إلى الجنود الذين في عهدته، محاولاً حَملهم على رفع عارضة خشبية ثقيلة، بينما الأمر يحتاج إلى مساعدة إضافية من شخص آخر.
وبينما الرجال يجاهدون عبثًا لرفع العارضة من مكانها، توقف عابر سبيل، تلوح منه سِيماء العظمة والجلال، وسأل ضابط الصف عن سبب عدم مساعدته لرجاله.
رفع ضابط الصف رأسه بتعالٍ، ومَدّ عُنقه بكبرياء، ونفخ صدره كأنه إمبراطور، وأجابه: "أنا عرّيف يا سيّدي!".
قال عابر السبيل: "أ عريف أنت؟! .. آسف، لم ألاحظ ذلك". ثم رفع قبعته وانحنى قائلاً: "عفوك أيها العريف!".
ثم خلع ذلك الغريب معطفه، وانحنى وساعد العسكر على رفع العارضة الثقيلة وتثبيته. وبعد إنجازالعمل ارتدى معطفه وقبعته، والتفت إلى ضابط الصف وقال: "أيها السيد العريف، عندما يكون لديك عمل آخر كهذا، ولا يكون عندك رجال يكفي عددهم، فارسل خبرًا إلى قائدك الأعلى، وأنا آتي وأساعدك مرة أخرى".
بُهت العريف وانعقد لسانه من فرط الذهول والخوف، فالرجل الذي كان يكلمه لم يكن إلا الجنرال: "چورچ واشنطن" نفسه! القائد الأعلى للقوات العسكرية، وبطل حرب الاستقلال الأمريكية (1775-1783)، وأول رئيس للولايات المتحدة (1789-1797)، وواحد من أعظم الرجال في التاريخ (1732-1799).
أيها الأحباء.. إن الله يقيس العظمة بمقدار الخدمة. والعظمة الحقيقية لا تتحقق بالتعالي والترأس على الآخرين وإصدار الأوامر؛ بل بالخدمة المضحّية الباذلة المكلِّفة. والرب يسوع - تبارك اسمه - هو قدوتنا ومثالنا الأسمى في هذا الشأن. فعندما كانت بين التلاميذ مشاجرة مَن منهم يظن أنه يكون أكبَرَ، قال لهم
- تبارك اسمه - «أنا بينكم كالذي يخدم» (لوقا22: 24-27). فمع أنه هو الله، ومع أنه يستحق كل إكرام وسجود وتعبّد الجميع، فإنه قَبِلَ أن يأتي إلى عالمنا إنسانًا، مُخليًا نفسه من هالة المجد، مُستتِرًا في الناسوت الذي تهيّأ له، وساترًا صورة الله تحت صورة العبد، وأعلن أنه «لم يأتِ ليُخدَم بل ليخدِم وليبذل نفسه فديةً عن كثيرين» (متى 20: 28). لقد كان له مقام السيادة والسلطان، ولكنه تنازل ليشغل مقام الخادم؛ فأعطانا قدوة عجيبة.
ويا لروعة المظهر الذي يظهر به ربنا المبارك في إنجيل يوحنا 13: 1-10!! هو مظهر مملوءٌ من النعمة، فنراه حاملاً مَغسلاً، مُتَزرًا بمنشفة، ومنحنيًا ليغسل أرجل تلاميذه. نعم إن «يسوع» ابن الله، خالق الكون وحامله، هو الذي نراه هنا يضع يديه الطاهرتين على أقدام تلاميذه ليغسلها من كل ما لصق بها من الأقذار حتى تلك التي لم يشعروا به. ولو تأملنا في مركز ومجد الشخص القائم بهذا العمل لَتجلَّت أمام عيوننا النعمة الغنية التي انطوى عليها صنيعه هذ. فالمكان الذي أتى منه الرب يسوع لا يوجد أسمى منه، وأقدام البشر القذرة لا يوجد أدنى منه!
والرب يسوع المسيح وهو يغسل أرجل التلاميذ لم يكن قد غاب عن باله أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه، ولا أنه من عند الله خرج وإلى الله يمضي، بل كان متثبِّتًا من ذلك تمامًا (يوحنا13: 3،4). فيا لها من نعمة غنية!! فالشخص الذي له كل السلطان في يده، هو نفس الشخص الذي عنده كل المحبة في قلبه، وهكذا حدث أنه بدافع المحبة في قلبه أخذ، بنفس اليدين، اللتين فيهما كل القوة، أرجل تلاميذه التي اتسخت في الطريق. فيا للروعة!! ويا للعظمة!! إن الشخص الذي هو السيد على الكل صار الخادم للكل، فما أجمل لُطفَ «ربي وإلهي»! وما أروعه في وداعته وتواضعه! ويا ليت الرب يقودنا إلى التأمل العميق في قيمة هذا الأمر حتى نستطيع أن نتبع المثال الذي يقدّمه لنا فيه حيث يقول «لأني أعطيتكم مثالاً، حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضًا» (يوحنا13: 15).
أيها الأحباء.. يليق بأبناء هذا العالم أن يترأسوا بعضهم على بعض، كل واحد بحسب رتبته ومكانته الاجتماعية ومركزه العالمي، ولا غرابة في ذلك، لأن هذا من نظام العالم الحاضر «أنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلطون عليهم» (متى20: 25). ولكن الرب يسوع المسيح أبدأ نظامًا آخر يقتضي أن نتصرف فيه بخلاف روح العالم تمامًا «فلا يكون هكذا فيكم، بل مَنْ أراد أن يكون فيكم عظيمًا فليكن لكم خادمًا، ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبدًا» (متى20: 26،27). فيجب أن لا يوجد موضع في كنيسة الله للتسلط العالمي «بل الكبير فيكم ليكن كالأصغر والمتقدِّم كالخادم» (لو22: 26)، و«بالمحبة اخدموا بعضكم بعضًا» (غلاطية5: 13).
وصحيح أنه توجد درجات متفاوتة من التقدم الروحي، ولكننا إنما نُظهر تقدّمنا الروحي بالتواضع والوداعة والتضحية وإنكار الذات وخدمة الآخرين بالمحبة «فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا» (فيلبي2: 5).
يا ليت الرب يعطينا نعمة لنتبع خطواته، فمن اقتفى اثر خطواته فاز أكثر بالعظمة الحقيقية من قِبَل الله.