في منجم للفحم في بلچيكا، وقف صبيٌّ صغيرٌ، ينتظر بصبر وترقب واضح، صعود المصعد من المنجم وخروج وردية المساء. فرآه أحد المشرفين وسأله: ماذا تفعل هنا؟!
- إن أبي يعمل هنا .. وأنا أنتظر صعوده لأني أحتاجه.
- لن يُمكنك التعرّف عليه في وسط عشرات الرجال الذين سيصعدون من المنجم وهم يرتدون جميعًا ملابس وخوذات متشابهة، ولهم نفس الوجه الأسود المغطى بغبار الفحم، فمن الأفضل أن تعود إلى بيتك.
ابتسم الصبي، وارتسم السلام والهدوء على وجهه، وبسرور واغتباط أجاب: اطمئن يا سيدي ... إن أبي يعرفني!
وما أروعها إجابة! لقد كان يعلم أنه ربما يكون غير قادر على التعرف على أبيه، ولكنه كان مطمئنًا وهادئًا لأنه كان يعلم أيضًا أنه من المحال ألا يراه أبيه ويعرفه.
وذكرت إحدى الأخوات هذه القصة البسيطة، فقالت: كنا في اجتماع بمنزل إحدى المؤمنات، وكل الحاضرات كن من الأمهات الشابات. وخصصت للأطفال الرضع حجرة أخرى في آخر المنزل. وفي أثناء الاجتماع سُمع صوت رضيعٌ يبكي. فتحركت واحدة فقط من بين الحاضرات وذهبت لترى ابنه. كل واحدة سمعت صوت الرضيع، ولكن أمه، التي تعرف نغمة صوته ونبرة بكائه، هي فقط التي تحركت لتحمله وتهدئه، فهي لم تنشغل عنه إطلاقً.
والرب خالق عواطف الأم وغرائزها، ومحبة الأب وحنانه، يعرف خاصته فردًا فردًا (يوحنا10: 14)، لأنه «إن كان أحدٌ يحب الله، فهذا معروفٌ عنده»(1كورنثوس8: 3).
"إنه يعرفني".. يا لها من حقيقة ثمينة ومنعشة، تفيض بالقوة للضعيف، وبالتعزية للمُجرَّب، وبالتشجيع للمسكين والذليل بين قطيع الرب الغالي.
"إنه يعرفني" ... يا لها من علاج لكل قلق وجزع، وبلسان لكل جرح وألم، وهدوء لكل اضطراب وخوف.
نعم"إنه يعرفني".. يعرف مكاني وزماني.. يعرف اسمي وشكلي.. يعرف دقات قلبي وأسراري.. يعرف كلماتي وهمساتي.. يعرف ويسمع صرخاتي وأضعف تأوهاتي.. يعرف زفراتي وأنّاتي.. يعرف أفراحي ومسراتي.. يعرف إمكانياتي وقوة احتمالي.. يعرف طلباتي وأعوازي.. يعرف كل ما أحتاجه لأجل جسدي وعقلي، لأجل صحتي وذاكرتي ونجاحي.. يعرف الخواطر والأفكار التي تخطر على بالي والتي تشغل أفكاري.. يعرف ما يلوث مخيلتي وذهني.. يعرف ما يكدِّر سلامي ويبعدني عن حياة التقوى.. يعرف ظروف بيتي وعائلتي.. يعرف كل ما يتعلق بأوقاتي العصيبة وصعوبات عملي وخدمتي.. يعرف رغبات قلبي وأشواقه وجوعه وعطشه.. يعرف خططي ومشاريعي.. يعرف طموحاتي وآمالي التي تجول في نفسي.. يعرف ما يُفزعني وما يُرعبني.. يعرف ما يُحيّرني وما يُربكني. إن معرفته الفائقة الواسعة تُحيط بكل شيءٍ يخصني، صغيرٌ أو كبيرٌ، كل كلمة قيلت معروفة عنده، ما أعمله وحيثما أذهب، في جلوسي وقيامي، في صحوي ومنامي، هو يعرفني ويعرف كل ما فيَّ وكل ما حولي.
وكم يُعزيني قوله لخاصته في رؤيا 2 و3 «أنا عارف أعمالك وتعبك وصبرك» و«ضيقتك وفقرك» و«أين تسكن» و«محبتك وخدمتك وإيمانك» و«أن لك قوةً يسيرةً» (رؤيا2: 2 ،9 ،13 ،19؛ 3: 1 ،8 ،15). هل توجد معرفة دقيقة تحيط بكل شيء مثل هذه؟! هل توجد عناية أدق وأرق من هذه؟! إنه دائمًا مفتكر فينا، ومهتم بكل تفاصيل حياتن!!
إنني مع الرسول بطرس أهتف قائلاً: «يا ربُّ، أنت تَعلَم كلَّ شيءٍ» (يوحنا21: 17). ومع داود النبي أرنم قائلاً: «يا ربُّ، قد اختبرتني وعرفتني. أنت عرفت جلوسي وقيامي. فهمت فكري من بعيدٍ. مَسلكي ومَربَضي ذَرَّيْت، وكلَّ طُرُقي عرفت. لأنه ليس كلمة في لساني، إلا وأنت يا ربُّ عَرَفتها كُلَّه. من خلفٍ ومن قُدّامٍ حاصرتني، وجَعَلتَ عليَّ يدك. عجيبةٌ هذه المعرفة، فوقي ارتفعت، لا أستطيعها» (مزمور139: 1-6).
وماذا عن طريقي؟!.. في طريقي صعاب وأثقال، وفي طريقي تجارب وآلام واضطرابات.. ولكن ما أحلى أن أقول واثقًا: «لأنه يعرف طريقي» (أيوب23: 10)، بل ويعرف كل طُرقي (مزمور139: 3)، وما أروع أن نطمئن إلى شخصه وعنايته وإرشاده.
أثناء الحرب العالمية الثانية، أمر ملك انجلترا بإجلاء كل أطفال أحياء لندن التي خَرَّبها طيران العدو بالقنابل. وكثيرون من أولئك الأطفال لم يكونوا قد تركوا بيوتهم أبدًا، لذلك كانوا قلقين وفي حالة عصيبة عندما جاء موعد الرحيل إلى محطة القطارات. أخذت الفتاة في البكاء، وقالت لأخيها: "إني خائفة ولا أعرف حتى إلى أين نذهب؟!". فوضع أخوها ذراعه حول عنقها ليواسيها وليطمئنها، وقال لها: "وأنا أيضًا لا أعرف أين نذهب، ولكني في سلام لأن الملك يعرف، فلا تقلقي إذً".
والرب «ملك الملوك ورب الأرباب» يعرف طريقي، مهما تكن الطريق التي أسير فيه.. يا له من يقين رائع ومجيد! ففي سيرنا في البرية نحن تحت نظر ذاك الحي الذي يران.. قد يكون طريقي طريق الحزن والدموع، وقد يكون طريقي طريق تجارب وآلام واضطرابات، وقد يكون طريقي شائكًا ملتفًا؛ ولكني أثق أن الله يعرفه تمام المعرفة. وقد يكون طريقي وعر مليء بالمرتفعات والمنخفضات والأعداء الذين يتربصون بي، ولكني أطمئن لأن الرب يعرفه. فهناك، من البداية إلى النهاية، خطة عظيمة دبرها لنا بمحبة لا تتغير وبحكمة لا تخطئ. فاليدين اللتين تُمسكان بزمام أمورنا هي نفس اليدين اللتين ثُقبَتا حُبًّا بن. وهكذا فإن الرب - تبارك اسمه - يعتني بنا عناية شخصية ويستخدم قوته العظيمة لمصلحتن.
عزيزي.. ابتسم مطمئنً.. هو يعرفك.. ويعرف طريقك.. فاذهب إليه يا صديقي، واسكب أمامه قلبًا يزداد في الأمانة والحب له من يوم إلى يوم.. والق كل همك عليه لأنه هو يعتني بك.. اسند ضعفك عليه لأنه يحب أن تعتمد عليه اعتمادًا كاملاً، في أمورك الصغيرة والعظيمة على السواء. هو القدير الذي تستطيع أن تثق فيه وتعتمد عليه في كل تجربة، وبمجرد حدوث أية مشغولية ضع كل ثقتك فيه مباشرة واطلب إليه أن يسندك وأن يُرشدك، أن يُطعمك وأن يكسوك، أن يُسكِّنك وأن يُطمئنك، لأنه لا توجد صعوبة لا تستطيع يده الكريمة أن تواجهها أو تعجز عن معالجتها، ولا يوجد احتياج يؤثر سداده على موارده الغنية أو ينقصه. فتعال إليه بكل احتياج بإيمان شديد، واطلب منه أعظم وأكبر الطلبات لأنك بذلك تكرمه.