استدار أحدهم عند الناصية فوجد هذا الإسكافي جالسًا على جانب الطريق يصلح الأحذية مقابل مبلغ زهيد، إذ كان في إحدى المدن الأسيوية حيث الأجور والمرتبات أقل بكثير من الأجور في موطنه سويسرا، فسأل نفسه: لماذا لا أصلح حذائي هنا وأوفِّر مبلغًا كبيرًا؟ نظر إلى ساعته، كان في طريقه إلى المطار عائدًا إلى أوروبا، إلا أنه قال لنفسه: بالتأكيد سيكون أمامي متسع من الوقت.
وهكذا خلع حذائه ووقف على الرصيف مراقبًا عملية الإصلاح وكان يخطف النظر إلى ساعته من وقت لآخر، ثم أدرك بعد فترة أنه برغم رخص الأجور فان سرعة إنجاز العمل ينقصها الكثير. أخذ صاحبنا يحث الرجل على الإسراع، مدركًا استحالة ذهابه إلى المطار بحذاء نصف مخلوع ونصف مُصلح، ومرت الدقائق قاسية، وأخيرًا تم لصق النعل الثاني ودُق آخِر مسمار مكانه. ألقى صاحبنا بالعملة الصغيرة إلى الإسكافي، وجرى يستوقف سيارة أجرة ليصل إلى المطار بأقصى سرعة.
في المطار جرى مقطوع الأنفاس نحو مكتب شركة الطيران فوجده مغلقًا وقد أُُغلقت أبواب الطائرة واستعدت للإقلاع، وقال له المضيف الأرضي: آسف لقد تأخرت كثيرً.
عاد صاحبنا إلى المدينة مغمومًا وغاضبًا من نفسه بشدة، فتذكرة الطيران لا يمكن تحويلها إلى أي خط آخر، وكان عليه أن يشتري تذكرة جديدة تمامً. لقد كلّفه رخص إصلاح الحذاء مبلغًا لم يتكبد مثله أبدً. وبينما كان يتجول في المدينة في انتظار الرحلة الثانية أدرك بألم أن أولوياته كانت خاطئة تمامًا، فبتركيزه على توفير ذلك المبلغ القليل ربح بضع دولارات وخسر مئات أخرى في التذكرة. وتعلّم صاحبنا درسًا، وكانت طلبته للرب أن يساعده أن يضع الأولويات في الترتيب الصحيح.
والآن دعونا نسأل ما هي أولويات حياتنا؟ يعلّمنا الكتاب المقدس أن هناك أولويات مهمة جدًا، وكلٍ منها يُذكر عنه أنه يجب أن يكون أولاً، منه:
1- «اذهب أولاً اصطلح مع أخيك» (متى5: 24)
فالله لا يرضى أن نقدم له عبادة ولا يشبع من عبادتنا إذا قدّمناها وبعض من إخوتنا لهم علينا شيء، فالرب في الموعظة على الجبل قال: «فإن قدّمت قربانك إلى المذبح، وهناك تذكّرت أن لأخيك شيئًا عليك، فاترك هناك قربانك قدّام المذبح، واذهب أولاً اصطلح مع أخيك، وحينئذ تعال وقدم قربانك» (متى5: 23 ،24). فالقربان المقدَّم هذا لن ينفع على الإطلاق ومُقدِّمه مُغضِب أو ظالم لأخيه. ولا يستطيع مُقدِّم القربان أن يقدّمه ثم بعد ذلك يسوِّي المسألة مع أخيه، بل عليه أن يصطلح مع أخيه أولاً، فإن مسرة الرب ليست بالمحرقات والقرابين والذبائح لكن باستماع صوته.
2- «أطلبوا أولاً ملكوت الله وبِرّه» (متى6: 33)
يوصينا الرب يسوع في متى 6 قائلاً: «لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون;
من جهة الأكل والشرب يقول لنا «انظروا إلى طيور السماء: إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها». ومن جهة الملابس يوصينا: «تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو! لا تتعب ولا تغزل».
وما يقصده الرب هو أن لا يكون عندنا هَم أو قلق نحو هذه الأمور، بل لنُلق عليه همومنا لأنه هو يعتني بنا، بل أولاً نطلب ملكوت الله وبرّه أي ليكن الله هو الحاكم الفعلي على تصرفاتنا وأقوالنا وسلوكنا، وأن نكون متجاوبين مع متطلبات هذا الملك العظيم على حياتنا، وأن تكون حياة كلّ منا الشخصية خاضعة لسلطانه في كل شيء، وليكن هو أولاً وقبل كل شيء آخر. والنتيجة الرائعة أن هذه الأمور تُعطى لنا بكثرة ووفرة.
3- «أخرِج أولاً الخشبة من عينيك» (متى7: 5)
فالإنسان له منظارين؛ أحدهما "مُكَبِّر" ينظر من خلاله إلى عيوب الناس وحسنات نفسه، والثاني "مُصَغِّر" ينظر من خلاله ليفحص حسنات الآخرين وعيوبه الخاصة.
والرب يقول: «أم كيف تقول لأخيك دعني أُخرج القذى من عينك، وها الخشبة في عينك؟ يا مرائي... أخرج أولاً الخشبة من عينك، وحينئذٍ تبصر جيدًا أن تُخرج القذى من عين أخيك».
لذا لنحذر من أن يكون لنا موازين مختلفة نزن بها الأمور.
4- «أعطوا أنفسهم أولاً للرب» (2كورنثوس8: 5)
هذا عن إخوة مكدونية وبالأخص إخوة فيلبي، فقد كانوا يمرّون في ضيقة شديدة، وعادة الناس في مثل هذه الحالة أن يجتهدوا لأن يُوفِّروا أموالهم لمواجهة المستقبل. ومع ذلك فاض فرحهم في الرب، حتى أنهم عندما عُرضت عليهم حاجة القديسين في أورشليم، عكسوا المألوف وأعطوا بسخاء منقطع النظير، فقد تمكنوا من الجمع بين الضيقة والفرح، والفقر والسخاء. لقد كان من السهل عليهم أن يُعطوا أموالهم لأنهم أعطوا أنفسهم أولاً للرب.
5- «فأطلب أول كل شيء أن تُقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس» (1تيموثاوس2: 1).
هذا امتياز لنا والتزام علينا في وقت واحد. فهو امتياز لنا أن نتقابل مع الله بالنيابة عن الناس، كما أنه التزام لأن الكتاب المقدس يعلمنا أن نحب كل الناس. لذا علينا أن نقدّم طِلبات (التوسل بشدة) من أجل حاجات واحتياجات محددة للناس.
6- «ولكن إن كانت أرملة لها أولاد أو حفدة فليتعلّموا أولاً أن يُوقروا أهل بيتهم ويُوفوا والديهم المكافأة؛ لأن هذا صالح ومقبول أمام الله» (1تيموثاوس5: 4)
ما أخطر أن يخفق المؤمن في الإعتناء بأهل بيته، فهذا يُعتبر إنكارًا للإيمان إذ يُنكر بتصرفه هذا الحقائق العظيمة التي تُعلمها المسيحية. فإذا كان لأرملة أولاد أو أحفاد فعليهم أن يتعلموا إظهار تقوى حقيقية عملية إذ يردّون لأمهم أو جدتهم فضلها عليهم إذ يهتمون بمعيشتها خصوصًا إذا كانت الأم أو الجدة أرملة ولا تملك أي وسيلة لإعالتها، فهذا الأمر مقبول أمام الله.
7- «ومن منكم وهو يريد أن يبني برجًا لا يجلس أولاً ويحسب النفقة، هل عنده ما يلزم لكماله؟» (لوقا14: 28)
يعلمنا الرب يسوع أن التلميذ الحقيقي عليه أن يحمل الصليب ويأتي وراءه ويعيش مثلما عاش هو حياة التواضع ونُكران النفس والتعرض للألم والإضطهاد، ثم نطق الرب بتوضيح ضرورة الجلوس وحساب النفقة، فالذي يريد أن يكون تلميذًا ليسوع المسيح لا بد أن يقرر هل هو على استعداد للتضحية من عدمه؟