يونان (2)

المُرسل القديم: كان يونان هو أول مُرسَل قديم أرسله الله إلى الأمم، وقد سجَّل قصته في سفره الشهير الذي يقع بين أسفار الأنبياء الصغار.

يونان و سفره

تعرَّض سفر يونان لهجمات كثيرة من نُقَّاد الكتاب المقدس، فقال البعض عنه إنه أسطورة، والبعض الآخر إنه مُجرَّد قصة رمزية ذات مغزى أدبي. وأنكر البعض إمكانية بقاء يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. لكنني أسوق هنا - بكل اختصار - بعض الأدلة التي تثبت صحة القصة وقانونية السفر.

  1. لو لم يكن السفر موحى به؛ أ كان يجرؤ يونان أن يكتب قصته التي تبين عصيانه لله، ثم تأديب الرب له بهذه الصورة المؤلمة لنفسه، والتي من الممكن أن تسيء إلى صيته وكرامته كنبي للرب؟
  2. لو كان السفر مُجرَد قصة خيالية أو رمزية؛ أ كان أحبار اليهود يقبلون أن يضعوه بين الأسفار القانونية في العهد القديم؟ علمًا بأنه يوضِّح صلاح الله وقلبه المليء بالرحمة للأمم عابدي الأوثان، وهو ما يتعارض مع الفكر اليهودي المتزمِّت.
  3. لو أن قصة يونان أسطورة أ كان المسيح يشير إلى يونان في أكثر من مناسبة وهو يعقد المقارنة بين يونان وبينه من جهة وبين توبة أهل نينوى وقساوة اليهود الذين رفضوا المسيح ولم يؤمنوا به من جهة أخرى؟ ثم كيف يقارن المسيح بينه وبين يونان قائلاً لليهود: «هوذا أعظم من يونان ههنا» إن لم تكن القصة حقيقية تمامًا؟! (راجع متى 12: 38-40؛ 16: 1-4؛ لوقا11: 29 ، 30).

يونان من هو؟

يرد ذكر يونان مرتين في العهد القديم؛ في سفر الملوك الثاني الأصحاح الرابع عشر وفي سفر يونان.

هو يونان بن أمتاي، من جَتّ حافر، وهي مدينة تقع في سبط زبولون في مقاطعة الجليل (يشوع19: 13). وكان الرب قد استخدمه كنبي ليوصل رسالة لشعبه أيام حكم الملك يربعام الثاني (2ملوك14: 25)، وذلك حوالي سنة 820 ق.م. كانت رسالته تلك رسالة رحمة لشعب إسرائيل، ويبدو أنه أقبل عليها بكل سرور. وكلمة يونان تعني "حمامة"، وكلمة أمتاي تعني "حقي" (الحق الخاص بي). وهكذا كل خادم ينبغي أن يتسم بالأمرين؛ أولاً: أن يشبه الحمامة في أن يكون غير مؤذٍ ولا ضار «بسطاء كالحمام» (متى10: 16)، وأن يحزن على خطايا شعبه ويئن بسببها (إشعياء38: 14). ثانيًا: أن يعلن حق الله للناس ويتكلم به بكل صدق وأمانة.

يونان وإرساليته

صار قول الرب إلى يونان بن أمتاي قائلاً «قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ونادِ عليه...». جاء التكليف من الرب واضحًا، لكنه قام وهرب إلى مدينة يافا، وهي مدينة تطل على البحر الأبيض. ثم اتجَه بالسفينة غربًا إلى ترشيش القريبة من جبل طارق في أسبانيا، ثم رجع إلى نينوى عاصمة المملكة الأشورية، والتي كانت من أعظم وأجمل المدن التي عرفها التاريخ القديم، والتي كان محيط دائرتها - في ذلك الوقت - ما يقارب المئة كيلومترًا، وكانت قد بُنيت على الضفة الشرقية لنهر دجلة، وعدد سكانها يزيد عن 600 ألف نسمة إذ كان بها من الأطفال أكثر من 120 ألف طفل.

يونان ودروس هامة

الطاعة

عندما يكلِّفنا الرب بمهمة خدمة، علينا أن نقبلها بسرور، ونطيع صوت الرب، عالمين أنه يمنحنا العون والقوة له. لنكن كإشعياء الذي قال «هانذا ارسلني» (إشعياء 6: 8)، بل كالمسيح «هأنذا جئت» (مزمور40: 7). ولنتعلم من يونان أن العناد والعصيان لا يؤدّي بنا سوى إلى جوف الحوت، حيث الضغط الرهيب والضيق الشديد. هل أدركنا أنه عندما يرسل الله ريحًا شديدة على سفينة حياتنا، في صورة فشل أو ضيق أو مرض أو اضطراب، فهذا لكي تعود سفينة حياتنا مرة أخرى نحو الأمر الذي يريدنا الرب أن ننفذه؟!

أهمية القلب المتسع

رفض يونان الذهاب إلى نينوى، لسبب تعصّبه القومي، وقلبه الضيق، وعدم ادراكه قلب الله المليء بالرحمة نحو اليهود والأمم على السواء. ونحن؛ كم من المرات كنا بعيدين عن فكر الرب، وانحصر تفكيرنا في دائرتنا الضيقة، ونسينا أنه يُسَرّ أن يعمل في دوائر كثيرة ووسط نفوس محتاجة هي أبعد ما تكون عن تفكيرن. كم نحتاج أن تتسع أحشاءنا فتكون كأحشاء إلهن.

غباء الانحصار في الذات

من الواضح أن يونان كان حريصًا على سمعته الشخصية وكرامته الذاتية أكثر من مصلحة النفوس الهالكة، كان محصورًا جدًا في ذاته، مما سبَّب له غَمًا شديدًا لما ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بأهل نينوى، وكأنه يقول: يا رب أ بَعد ما أعلنت غضبك على المدينة تعود وترحمها ويسقط كلامي!!

آه دعونا نسأل أنفسنا بإخلاص؛ أيهما أهم: نحن أم عمل الرب؟ كرامتنا أم نجاح العمل؟ شهرتنا أم مجد الرب؟

الرب يشفق على الكل

فهو يشفق على المؤمنين وينقذهم من ضيقاتهم متى صرخوا إليه. فقد أنقذ يونان من بطن الحوت لما صلّى إليه (2: 1 ، 2)

وهو يشفق على الخطاة التائبين الراجعين إليه (3: 10)، وهو يشفق على الأولاد الصغار الذين لا يعرفون يمينهم من يسارهم (4: 11)، وهو يشفق حتى على البهائم التي تُباد (4: 11).

ما أعجب هذا الإله!! حق لداود أن يهتف عنه قائلاً: «يا رب في السماوات رحمتك. أمانتك إلى الغمام... الناس والبهائم تُخلِّص يا رب» (مزمور36: 5 ، 6).