ليس وطنك


بعد 40 سنة، قرر المرسل الطبيب أن يعود إلى بلده، بعد أن أنفق العمر والجهد في خدمة السيد، في قرية بدائية في أحراش أفريقي. حجز مكانه على سفينة عائدة إلى بلاده، وأرسل خبرًا لأحبائه بموعد وصوله.

بينما كانت سفينته تعبر الأطلنطي، جالت بخاطره ذكريات قرابة نصف قرن يقدِّم العلاج الروحي والجسدي لأبناء القارة السمراء. غمرته سعادة بأن العمر ما ضاع هباءً، بل قُضي للسيد الذي يستحق. ولم يستطع، وسط أفكاره، أن يمنع مشاعره من تخيل لحظة وصوله للوطن واستقبال الأهل والأصدقاء له بعد أربعين سنة لم يعد خلالها للوطن ولا مرة.

اقتربت السفينة من ميناء الوصول، فخفق قلب المرسل الشيخ وهو يتطلع إلى الرصيف، إذ وجد عددًا ضخمًا من المنتظرين يحمل بعضهم لافتة ضخمة تقول:  "مرحبًا بك في وطنك". نزل صديقنا بخطوات مسرعة على درج السفينة ليصل للرصيف، وقلبه ملتهب من هذا الاستقبال المهيب. وعلى الرصيف صُدم بأن هذا الاستقبال الحافل لم يكن له، بل لأحد الممثلين كان عائدًا لبلاده على نفس السفينة.

على الرصيف انتظر، بقلب كسير، لواحد يرحب به؛ فلم يأته أحد مرحبًا بعودته للوطن. تفرقت الجموع ولم يبقَ إلا الشيخ الأسيف على الرصيف. رفع عينيه إلى السماء، مخاطبًا إلهه، بلهجة لا تخلو من العتاب:  "بعد كل هذه السنوات من الخدمة والتعب، هل من الكثير عليَّ أن تُرسل واحدًا، واحدًا فقط، ليرحب بعودتي لوطني؟".

وسط سكون الموقف، إذ بالله يتكلم إلى قلب المرسل الشيخ "من قال أنك عدت إلى الوطن؟ أ نسيت أن وطنك، الذي تبتغيه، سماويٌ (عبرانيين11: 16)؟ أم نسيت أن جنسيتك (سيرتك) هي في السماء (فيلبي3: 20)؟ عند عودتك إلى وطنك ستُقابَل بأروع ترحيب. أليس هذا أفضل؟".

انحدرت دمعة من عين المرسل، وقال مخاطبًا سيده بلهجة الامتنان هذه المرة:  "نعم يا سيدي هذا هو الأفضل. إذًا سأكمل ما بقي من عمري لك أمينًا، ولن يهمني رد فعل الناس، إن رحبوا أو إن نسو. فلست أريد إلا رضاك، ولا انتظار لي إلا أن أسمع من فمك الكريم المدح الوحيد الذي يبقى >نعمّا أيها العبد الصالح والأمين< (متى25: 21). فأعنّي لأحيا لك إلى يوم لقاك في وطني".