لا تدع الله يأخذ منك شيئاً
أحد خدام الرب كان في زيارة فتاة، طريحة الفراش في مستشفى للعيون، فيما الأطباء يُجاهدون عبثًا للحيلولة دون إصابتها بالعمى. وبحزن بالغ وأسى شديد، قالت الفتاة لخادم الرب: "سيأخذ الله بصري!".
فأصغى إليها الرجل باهتمامٍ شديدٍ، ولم يَقُل كلمةً في بادئ الأمر. ثم أجابها برقة وحنان: "لا تدعيه يأخذ بصرك أخذًا يا عزيزتي، بل اعطِه إياه عطاءً".
فقالت الفتاة: "لم أفهم!".
فأردف خادم الرب قائلاً: "حاولي يا عزيزتي أن تصلّي هذه الصلاة من قلبك: أيها الآب السماوي، إن كان لا بد من فقد بصري، فساعدني كي أُعطيك إياه بسماحة القلب، في خضوع كامل لمشيئتك الصالحة، بلا تذمر في القلب، وبلا احتجاج في الفم. احفظني يا رب من المرارة والاستياء، ومن الإحباط والقلق، ومن صِغَر النفس والرثاء للذات. وساعدني يا رب لكي أظل واثقة في محبتك التي لا تتغير، وفي حكمتك التي لا تُخطئ. واسندني بنعمتك ليتحوَّل تذمري إلى تسبيح، وحُزني إلى فرح، فأعطيك بصري، بل وكل حياتي، تقدمة محبة لشخصك، يا مَن أحببتني، ومِن عُظم حبك لي، لم تُشفق على ابنك وحيدك، الذي تُحبه، بل بذلته لأجلي على الصليب، فصار مُخلّصي وصخرتي، ومصدر قوتي ورجائي، ومجدي وملجأي".
أيها الأحباء: إنه لمن بواعث الراحة الحقيقية أن نرى يد الله في كل ظروف حياتنا، وأن نعلم أن له قصدًا ساميًا من كل أحداث الحياة. وهذا يجعلنا قادرين أن نقول في وسط الحرمان، والحزن، والألم، والخسارة: «هو الرب. ما يحسُن في عينيه يعمل» (1صموئيل3: 18). وهذا ما يضع نهاية لكل تذمراتنا وأفكارنا المتمردة، حتى وإن كنا لا نفهم الآن (يوحنا13: 7). وهذا يجعلنا أيضًا، بتسليم كامل، نُخضع نفوسنا وأفكارنا لمشيئة الله الصالحة على الدوام.
لقد تدّفقت التجارب على أيوب كالأمواج المتلاحقة، فحُرِمَ من ماشيته وخدامه، ثم زادت عليه التجربة بحرمانه من جميع أولاده (أيوب1: 13-19). وهكذا ضاعت الثروة وكل الممتلكات، وتلاشت الأسرة بفقد كل الأبناء. وأمام كل هذه الخسائر، ماذا عساه فعل؟ هل صدرت منه شكوى من سوء حظه؟ هل تذمر على الرب واتهمه بالقسوة والظلم؟ هل قال للرب: لماذا؟! ولماذا أنا بالذات؟! كلا على الإطلاق.
لقد واجه أيوب هذه المحنة كساجد «فقام أيوب... وخرَّ على الأرض وسَجَدَ» (أيوب1: 20). وبهذا التصرّف أعطانا تعبيرًا للخضوع لإرادة الرب. وفي شدة ساعة الظلمة التي اكتنفته، استطاع أن يُبارك الرب. ويا لروعة الكلمات التي فاه بها أيوب: «الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مُبارَكًا» (أيوب1: 21). فالذي يهب ويعطي كل الهبات والعطايا، مِن حقه أن يستردها بقدر ما شاء، وفي أي وقت يشاء.
وعندما أصبح جسم أيوب كله سقيمًا، من باطن قدمه إلى هامته، وذهبت صحته ونضارته، ووبّخته زوجته، واقترحت عليه أن يتخلى عن إيمانه، ويلعن الله ويموت (حيث أن الموت في عينيها أفضل من حالة البؤس واليأس المحيط به). كان جوابه: «أ الخير نقبل مِن عند الله، والشرَّ لا نقبل؟» (أيوب2: 10).
والكلمة «نقبل» تعني أن نتقبل الشر كهدية من الله. وهي كلمة إيجابية، توحي بالتجاوب مع أعمال العناية الإلهية، وليس مجرد الخضوع لها، وتدل على رضا النفس تحت آلامها وتجاربها وضيقاتها، دون أن نحتقرها أو نخور تحت عبئها (أمثال3: 11 ،12؛ عبرانيين12: 5 ،6).
إن الله الذي يعطي: الصحة، النجاح، الثروة، الأولاد، القوة، الشهرة؛ من حقه أن يأخذ كل شيء إذا اختار ذلك، لأنها في حقيقة الأمر ملكه. فإذا كنا نقبل أشياء صالحة من يده، فيجب علينا أن نكون مهيَئين لقبول أشياء أخرى ربما تبدو في ظاهرها شرً. والإيمان، الذي ربطنا بالله أبينا، يجعلنا نثق أن الصعاب والعقبات في سبيل حياتنا، إنما هي نِعَم جليلة، وذلك متى لاقيناها واثقين في محبته وحكمته وقدرته على مزج كل الأشياء وجعلها تعمل معًا لخيرنا (رومية8: 28).
وهكذا لما أخذ الله من أيوب ثروته وكل أولاده، خضع أيوب لما سمح الله به، وقال: «الرب أعطى والرب أخذ». ولكن هناك ما هو أروع وأسمى من هذا المستوى. فلقد كانت تجربة إبراهيم أشد، وكانت على مستوى أعلى كثيرًا، فهو لم يُطلب منه ببساطة أن يخضع بطريقة سلبية لمشيئة الله، بل طُلب منه أن يعمل عملاً مخالفًا كل المخالفة للطبيعة الإنسانية، بل وشديد الوطأة على العواطف الأبوية، بما يؤلم ويسحق قلب الأب. لقد قال له الله: «خُذ ابنك وحيدك، الذي تحبه، إسحاق، واذهب إلى أرض المُريَّا، واصعِدهُ هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك» (تكوين22: 2). فيالصعوبة الامتحان! ويا لثقل التجربة! إن الله يقول له: "يا إبراهيم!.. اعطني أنت ابنك مذبوحًا"!
ويا لروعة تصرف إبراهيم، بما منحه الله لإيمانه! فلقد أطاع إبراهيم ونجح في هذا الامتحان. وفي هدوء تام، قام في الصباح الباكر وشدَّ على حماره، وأخذ اثنين من غلمانه معه، وإسحاق ابنه، وذهب إلى الموضع الذي قال له الله وبنى هناك إبراهيم المذبح، ورتَّب الحطب، وربط إسحاق ابنه، ووضعه على المذبح فوق الحطب! وبيد ثابتة وقلب مغمور بالثقة في الرب «مدَّ إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه». وكاد فعلاً يهوي بالسكين على فلذة كبده ليذبحه، لولا صوت السماء: «إبراهيم! إبراهيم!... لا تمُدَّ يدك إلى الغُلام ولا تفعل به شيئًا، لأني الآن علمت أنك خائف الله، فلم تُمسك ابنك وحيدك عني» (تكوين22: 12).
ونحن لا يمكن أن نتعرض لمثل تجربة إبراهيم، ولكن إذا علمنا أن أحد أحبائنا سيؤخذ منا، أو إذا قيل لنا إننا سنفقد ما هو عزيز وغالٍ على قلوبنا؛ كم هو جميل عندئذٍ أن نتخلَّ لله - طواعية واختيارًا - عما نتمسك به، وكأننا نقدمه له - تبارك اسمه - تقدمة محبة. وكما سلّم إبراهيم ابنه الغالي، إسحاق، على جبل المُريا؛ نُعطيه كل ما يطلبه بسماحة القلب.
عزيزي: لا تدع الله يأخذ منك شيئًا، بل أعطه إياه عطاءً، مترنمًا من قلبك بنغمة عالية وصادقة:
فأنا لستُ لذاتي |
ليس لي شيءٌ هنا |
كلُّ ما عندي لفادي الـ |
نفسِ وهَّاب المُنى |
إذ فداني إذ فداني |
ذاك بالدم الكريم |