وقفنا في الأعداد السابقة قُربَ الصليب ورأينا الأعداء الحاقدين والكارهين. ورأينا الصليب وقد قَسَم العالم إلى فريقين: فمنهم من أبغض المسيح بلا سبب، ومنهم من أحبه لألف سبب وسبب. وإن كنا قد تعجبنا عندما رأينا الأعداء والشاتمين والمأجورين وهم يسبّون المسيح! تعجبنا أيضًا ونحن نتساءل: أين من أحبهم المسيح؟ من طهرهم وفداهم.. من شفاهم وعزّاهم.. من أشبعهم وأغناهم...؟ فيشير علينا أحدهم فنلتفت لنجد قلة بين الكثيرين. إنهم: أحباء المسيح
لقد عاش ربنا المحب لفعل الخير، ووصلت محبته لكل من تعامل معه ورآه وسمعه وناجاه. والطبيعي في مشهد آلامه ومعاناته أن يرى صدى لمحبته في الآخرين؛ ولو بكلمة تشجيع أو نظرة رثاء. ونحن كنا ننتظر أن نرى هنا - أول ما نرى - تلاميذ المسيح الذين رافقوه كل أيامه وسمعوا كل كلماته ورأوا كل معجزاته.
لكننا بحثنا عنهم، وسألنا فأتانا الجواب: «تركه التلاميذ كلهم وهربوا» (متى26: 56).
لكن بين الواقفين نرى باقة ورد بين الأشواك. نرى الإخلاص والوفاء في مشهد نكران الجميل.
نرى المحبة التي طرحت الخوف إلى خارج، مُمَثَّلة في رجل وأربع نساء.
نرى يوحنا - التلميذ الذي كان يسوع يحبه - وكأننا نسمعه يقول "أحبك يا من أحببتني أولاً..
وأنا هنا لأخدمك وأحفظ وصاياك".
ونرى المريمات: المجدلية، وأم يعقوب، وأم ابني زبدي. فنسمعهم يقلن "يا من
أحببتنا، وشفيتنا، ورثيت لنا في وقت محنتنا؛ ها نحن أمامك مهما كانت المخاطر، لنظهر
لك الولاء مهما كان البلاء".
ونقترب أكثر من أكثر القلوب ألمًا وسحقً.
من القلب الذي يُعتصر حزنًا: قلب الأم المطوَّبة مريم.
فإن كان صعبًا على أيّ أُم أن ترى ابنها يموت أمامها، إذ هو فخرها في ماضيها
ورجاؤها في مستقبلها؛ فماذا عن المطوبة مريم ومَنْ يموت أمامها ليس مجرد ابن عادي؛
إنه يسوع العجيب في ميلاده وحياته، في حنانه ورقته، في خضوعه وطاعته، إنه من افتخرت
به وهي تسمع الكثيرين يطوبونها وهم يروا أعماله ويسمعوا كلماته.
إننا نراها تُعتصَر ألمًا وكأنها تتذكر كلمات
سمعان الشيخ «وأنت أيضًا يجوز في نفسك سيف» (لوقا2: 35).
من يصف آلامها وهي ترى ابنها الغالي في قمة آلامه ومعانته، وهي لا تستطيع مواساته أو ضمه إلى صدرها لتقبِّل جبينه الملطَّخ بالدماء؟!
من يصف أحزانها وهي تسمع الشاتمين والمعيّرين والمستهزئين؟!
ومن يصف نفسها المعذبة وهي ترى ابنها يموت، ويا ليتها ميتة طبيعية، لكنه يموت في
المكان المُعَدّ للصوص والملعونين؛ وكأنها تقول بكل حسرة والدموع تنهمر من عينيها:
"ليس لك يا ابني كل هذا".
وهنا وصفها أحدهم:
بين الجموع.. أم بالدموع.. جاءت إلى جزع الصليب..
تحت ثقل السنين.. وفي الحشا أنين.. رأت قطعة منها تذوب..
رأت جنبه والجبين.. ينزفان الدم الثمين.. رأت شمسها تغيب..
هذا ما رأيناه اليوم. إنه شعاع من الحب ينعش قلب الرب المكسور وسط جوٍّ مليء
بالبغضة.
صديقي: يا من أحبَّك المسيح وأسلم نفسه لأجلك؛ أين أنت من الصليب؟ إن مكاننا الصحيح من الصليب - كمؤمنين - أن نكون أسفله وعليه وبجواره؛
أسفله؛ لنتبع سيدنا «وقال للجميع إن أراد أحد أن يأتي ورائي... يحمل صليبه
كل يوم ويتبعني» (لوقا9: 23).
وعليه؛ ليحيا المسيح فينا «مع المسيح صُلِبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ»
(غلاطية2: 20).
وبجواره؛ لنحيا حياة القداسة «ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء
والشهوات» (غلاطية5: 24).