هو رجل أعتبره صاحب فضل مباشر عليَّ وسبب بركة غامرة لي، كما أثق أنَّ كثيرين يشاركونني هذا الشعور أيضً. ففي صباي كنت كلما قرأت الكتاب المقدس باللغة العربية، وكلّما حصّلت فائدة منه، كلما تسألت عن كيف وصل إلي يدي هكذا بلغتي، فرحت أقرأ كل ما امتدت إليه يديَّ عن هذا الأمر. ودعني اليوم أعرِّفك بصاحب الفضل الأكبر في وصوله بين يدَيْك؛ رغبة في أن نتعلم من حياته.
في مقال نُشر عنه في جريدة الأهرام عدد16/3/2001، تحت عنوان "كرنيليوس فان دَيْك، من رواد تحديث الثقافة العربية؛ إعادة اكتشاف مستشرق غربي"، شملت هذه المقالة سيرته وإنجازاته؛ كان من ضمن ما قيل عنه: "(كان من الذين) أفادوا الثقافة العربية الحديثة بل وشاركوا في تأسيسها في القرن التاسع عشر بنية حسنة وبود صادق... لعب فان دَيْك دورًا مهمًا في تحديث العلوم عند العرب في القرن التاسع عشر... ولم يترك للثقافة العربية مؤلفاته وترجماته فقط، بل ترك تلاميذه واصلوا طريق التحديث والتنوير".
ولد في بلدة كندرهوك بولاية نيويورك في 13 أغسطس 1818، لأبوين من أصل هولندي؛ في عائلة رقيقة الحال.
في شبابه تعلّم اللغات اللاتينية واليونانية بالإضافة للإنجليزية والهولندية. لم يعطله فقر عائلته عن الدرس، فقد كان يستعير الكتب من رفاقه أو يستأجرها بقليل من المال كان يكتسبه من عمل يعمله، أو يحفظ غيبًا ما يسمعه من محتوى الكتب. حتى رتب له الرب طبيبًا كريمًا سمح له باستعمال مكتبته الخاصة. وقد درس باجتهاد الصيدلة والطب والرياضيات، حتى نال الدكتوراة في الصيدلة من جامعة جفرسن في فيلادلفيا سنة 1839.
بعد ذلك تأكد كرنيليوس، وكان شابًا غيورًا مُحبًّا للرب، من دعوة الرب له أن يخدمه كمُرسل في بلاد الشام؛ رغم علمه بصعوبة الحياة هناك آنذاك، وكان قد بلغ من العمر الحادية والعشرين.
سافر بالبحر، مع مجموعة من رفقائه المرسلين، في رحلة مرهقة استغرقت شهرين كاملين. عند وصولهم لبيروت، في إبريل 1840، تم حجزهم للحجر الصحي لمدة 14 يومًا، لم يهدر كرنيليوس هذا الوقت فبدأ في تعلم اللغة العربية خلالها، ويقال إنه تعلم حوالي 200 كلمة في هذا الوقت القصير. وفي بداية إقامته في بيروت تعرف بالمعلم بطرس البستاني الذي صار له صديقًا ورفيقًا في عمل عظيم بعد ذلك. انكب على دراسة اللغة العربية، بمساعدة الشيخين ناصيف اليازجي ويوسف الأسير، فأجادها كتابة ونطقًا حتى أنه ألّف كتابًا عن الشعر العربي! لم يكن هذا الكتاب هو الوحيد في تاريخه، فلقد ألّف الكثير من الكتب في الطب والكيمياء والرياضيات والفلك والجغرافيا والتاريخ. كما واستمر في دراسة اللغات فأضاف لرصيده العبرية والسريانية والكلدانية.
وفي صيف 1843 أسست الإرسالية مدرسة في قرية "عبية"، كان يدرس فيها فان دَيْك ويضع مناهج المدرسة مع رفيقه البستاني. وفي المساء كان يعظ الجميع بمواظبة مدهشة. ثم انتقل إلى صيدا ليعمل فيها حتى 1853. عاد بعد ذلك للولايات المتحدة حيث درس أحدث الاكتشافات الطبية في علم الجراثيم، وعاد يحمل معه أول مجهر طبي يُستخدم في الشرق الأوسط.
توفي الدكتور عالي سميث، والذي كان قد شرع في ترجمة الكتاب المقدس إلى العربية من اللغات الأصلية مباشرة سنة 1848؛ وبعد وفاته عُهد إلى كرنيليوس فان دَيْك بإكمال العمل سنة 1857. انكب فان دَيْك على العمل بتفانٍ كبير، وكان يقضي الساعات الطوال بين الكتب والقواميس والمعاجم، مدقِّقًا في معنى كل كلمة في اللغات الأصلية مصلّيًا ليقوده الرب للتعبير العربي السليم له. في نهاية مارس 1860 كان قد أنجز طباعة العهد الجديد.
سافر بعد ذلك إلى ألمانيا، وهناك قابل بعض المستشرقين الألمان واستفاد من خبراتهم لترجمة العهد القديم. عاد ليستكمل عمله، فأنجز ترجمة العهد القديم في 22 أغسطس 1864. وبذلك أتم ترجمة الكتاب المقدس كله بعد 16 سنة من العمل المتواصل هو مجموع عمل كل من سميث وفان دَيْك. وهكذا أنجز أروع وأبقى أعماله (بالإضافة للتأليف فقد أسس فان دَيْك مدرسة طبية، ومرصدًا، ومطبعة، وجمعية أهلية، ومستوصفًا لأمراض العيون، ومارس الطب في مستشفى كبير، وشارك في الكثير من المشروعات القوية الأخرى).
كتب كرنيليوس في نهاية مخطوطة الترجمة "لا أكاد أصدِّق أني كنت أعيش في العالم، فقد كان صعبًا عليَّ إدراك أن عمل السنين الطوال قد اكتمل. إن قلبي ينبض كطرقات المطرقة، ووجَدَت عواطفي متنفَّـسًا بالسقوط على ركبتيَّ وتقديم الشكر لله من أجل نعمته وصلاحه إذ منحني القوة على إنجاز عملي حتى النهاية".
وبمرور 50 سنة له في بيروت منحه السلطان العثماني النيشان المجيدي تقديرًا لجهوده المتعددة.
وفي 13 نوفمبر 1895، إثر إصابته بحمى تيفودية، انطلق ليكون مع المسيح مستريحًا من كدّه بعد أن أكمل جهاده بكل نجاح، تذكره له أجيال الناطقين بالعربية إلى يومنا هذا، والأهم من الكل: أن إلهه الغني لن ينسى له عمرًا قضاه لمجد سيده.
وقد أوصى أن تقتصر جنازته على قراءة 1كورنثوس15 ومزمور90 وألا تحتوي كلمات تأبين له أو خُطَب، فقال عنه أحدهم: "إن وصيته هي أعظم من كل المواعظ التي نطق بها الفقيد في حياته". وقال عنه آخر "إنسان وضع نفسه بين يدي خالقه، فاستخدمه الله بأفضل ما يمكن".
أسألك عزيزي القارئ أن تعود ببصرك إلى الكلمات المكتوبة بخط مميَّز وتتأمل مغزاها بعمق، فهي تحمل لك الكثير من الدروس:
في شبابه تعلّم.. لم يعطلّه فقر عائلته.. درس باجتهاد.. وكان شابًا غيورًا مُحبًا للرب.. رغم علمه بصعوبة الحياة.. لم يهدر الوقت.. واستمر في الدراسة.. بمواظبة.. انكبَّ على العمل بتفانٍ كبير.. مدقِّقً.. مصلّيً.. بالعمل المتواصل.. أنجز أبقى أعماله.. وتقديم الشكر لله.. أكمل جهاده.
صلِّ أن تتعلم هذه الدروس فتتحقق في حياتك.