عندما تقرأ سفر حبقوق يستلفت نظرك أسلوبه المميَّز؛ ففيه ترى حبقوق إما مُصلّيًا، أو متأملاً، أو مستمعًا لكلمات الرب، أو مرنِّمً. إنه في حديث متبادل مع الرب. والنبوة عبارة عن حوار مكتوب.
وحبقوق كلمة عبرية تعني: عناق أو احتضان. وأتخيل أن حبقوق، هنا، تارة يعانق الرب متحيرًا متسائلاً، وتارة يحتضن شعبه متضرّعًا متشفعً. مرة يصرخ متوسلاً، ومرة يهتف مرنمً.
من هو حبقوق:
هو صاحب سفر حبقوق، الثامن بين أسفار الأنبياء الصغار. وقد تنبأ حوالي سنة 605 ق.م. أي قبل السبي البابلي بفترة وجيزة.
عاش حبقوق في واحدة من أظلم فترات مملكة يهوذا؛ فلقد كانت الأمة كلها في حالة تمرد وعصيان على الله، وربما كان معاصرو حبقوق يعيشون وكأنه لا يوجد إله.
في ذات الوقت كانت مملكة بابل تلوح في الأفق مكشِّرة عن أنيابها مسبِّبة خوفًا وذُعرًا في كل مكان. كان البابليون قساة جدًا بلا مشاعر، أشرارًا للغاية بلا ضمير.
وقف حبقوق يتطلع هنا وهناك - رأى شعبه وحالتهم المزرية، ورأى الكلدانيين وقوتهم الهائلة. ولأنه شخص حساس، نفسه رقيقة، سكب قلبه قدام الرب؛ فجاءت هذه النبوة الجميلة.
حبقوق متحيرًا متسائلاً:
«الوحي الذي رآه حبقوق النبي» الوحي هنا تعني - حرفيًا - الحِـمل الثقيل الذي كان يحمله على كتفه. فقد كانت لديه مجموعة من الأسئلة التي تحيّر ذهنه ومجموعة من الشكاوى التي تحني قلبه: حتى متى يا رب؟! لماذا يا رب؟! ثم خَلُصَ بأربع خلاصات:
أولاً: جمدت الشريعة، أي فقدت تأثيره.
ثانيًا: لا يخرج الحكم بتة، أي لا مكان للعدل.
ثالثًا: الشرير يحيط بالصدِّيق، أي يكاد يبتلعه.
رابعًا: يخرج الحكم معوَّجًا، أي كل الأحكام معوجة.
كان كأنه يقول للرب: هل تقف غير مبالٍ بما يحدث؟ كيف يمكن أن يكون هذا وأنت الإله القدوس. لكن الله لم يجب أسئلة حبقوق ولم يخبره لماذا يحتمل الشر وإلى متى سيحتمله، لكنه قال له «لأني عامل عملاً في أيامكم لا تصدقون به إن أُخبر به»... سوف أستخدم الكلدانيين لتأديب شعبي (ص1: 5-11).
لكن حبقوق تحير أكثر وكأنه يقول: يا رب لا أستطيع أن أصدق هذا؟ كيف يكون هذا؟ ألست أنت الإله القدوس الذي عيناك أطهر من أن تنظرا الشر ولا تستطيع النظر إلى الجور؟ إذًا كيف يمكن أن تقبل أن الكلدانيين يُعاقبون شعبك؟ كيف ترضى أن الشرير يبلع من هو أبر منه؟ صحيح أن شعبك أشرار للغاية، لكن الكلدانيين أبشع بما لا يقاس - ثم هم وثنيون يسجدون ويبخّرون لآلهتهم وينسبون قوتهم لهذه الأصنام الكاذبة! هل من الممكن أن تقبل أنت هذه الأوضاع يا إلهي؟
أليست هذه التساؤلات تشبه إلى حد كبير الحيرة التي يجتازها الأتقياء في كثير من الأحيان عندما يرون الأوضاع مقلوبة في العالم، والشر يزداد قوة، والعنف ينتشر أكثر، والدماء البريئة تُسفك، وفوق الكل أن الأبرار يتألمون، تُرى أين الله من كل هذا؟!
ماذا فعل حبقوق؟
حبقوق مراقبًا ومنتظرًا:
إذ شعر النبي بالحيرة والارتباك الشديدين، قرّر أن يعمل أفضل ما يمكن أن يعمله المؤمن في هذه الأوقات «على مرصدي اقف وعلى الحصن انتصب وأراقب لأرى ماذا يقول لي وماذا أُجيب عن شكواي».
لقد أتى بكل قلقه وانزعاجه، وصعد إلى مكان مرتفع، وبدأ يتطلع نحو الرب، مراقبًا إياه، ومنتظرًا إجابته. إنه شيء رائع أن نتدرب أن ننعزل قليلاً عن كل الضجيج الذي حولنا، ونختلي بالرب، ونضع أمامه ما يقلقنا ويحيرنا، ونظل نراقبه حتى يجيبن. لا شك أنه أمر صعب؛ لكنه تدريب هام.
أضف إلى ذلك أن حبقوق، كنبي، كان عليه أن يقدِّم تفسيرات مقنعة للشعب عن كل ما يحدث، فإذ شعر بعجزه وارتباكه قرّر أن ينتظر الرب حتى يرى ماذا يقول له. هل نتعلم هذا الدرس؟ هل إذا شعرنا بعجزنا إزاء تفسير معاملات الله نصمت مع الناس وننسحب إلى مخادعنا ونتحدث مع الرب؟
«فأجابني الرب» أو عندئذ أجابني الرب . متى؟ بعد أن أنتظر لفترة. بعد أن قرر أن يكون ساكنًا وأن يدع الله يجري ما يشاء متى يشاء.
«فأجابني الرب» .. ترى بماذا أجابه الرب؟
هذا ما سنعرفه في العدد القادم بمشيئة الرب