فركت سوزان عينيها بيديها ثم هتفت بكل قوتها من أعماق قلبها «تُرى هل أنا في حُلم جميل أم أنه قد تحقق المستحيل». كان ذلك في شهر أغسطس سنة 1991 أسعد الأشهر على وجه الاطلاق في حياة سوزان وحيدة والديها التي نشأت في أرقي العائلات في إحدى محافظات صعيد مصر. وبالتحديد كان هناك يومان في حياة سوزان لن تنساهما على مر الزمان. الأول يوم أن ظهرت نتيجة الثانوية العامة فحصلت على مجموع 93.2% والثاني يوم ظهور نتيجة التنسيق واستلامها الكارت ومكتوب عليه اسمها ومعه اسم كلية الصيدلة حُلم حياتها الأول. ولكن كان عصر ومساء هذا اليوم أكثر إثارة من مجرد قبولها بكلية الصيدلة فلقد استيقظت الساعة الخامسة بعد الظهر على صوت أقدام وقفت بجوار سريرها ثم شعرت بيد تمتد تحت الوسادة التي تنام عليها وعندما فتحت عينيها وجدت أباها يبتسم ابتسامة فهمت معناها سريعًا فوضعت يدها تحت الوسادة لتجد مفتاحًا بسلسلة وعندما رفعته أمام عينيها قال لها أبوها : إنها عربة فيات 128 جديدة لكِ يا أعظم دكتورة، تتناسب مع بنتي الأمورة لتذهب بها للجامعة .. قفزت سوزان من على السرير وقبّلت والدها وفي لحظات كانت تقف تحت العمارة لتتأمل في عربتها الحمراء الجديدة وهي تتلألأ في بهاء كعروس تنتظر مجيء عريسها.
رجعت سوزان من النادي في المساء وبعد العشاء دخلت حجرتها فكاد أن يتوقف قلبها من شدة الفرح فها هو أمل حياتها السعيد .. البيانو الجديد قد وُضع في حجرتها ولمحت فوقه «كارت» مكتوب عليه »» هدية حُبية لأجمل صيدلانية «« التوقيع .. ماما .. وبعد أن قبَّلت أمها وشكرتها جلست سوزان لتعزف أبهج الألحان فلقد ابتسم لها الزمان .. وبكل هيام عزفت الأنغام التي تُغنى بدون كلام عن كل الأحلام التي عاشتها طوال الأيام.
لم يمضِ إلا أربعة أشهر فقط حتى كان شهر ديسمبر سنة 1991 حيث بدا الإعياء والارهاق الشديدان على وجه سوزان وظن الجميع في البداية أنه نتيجة طبيعية لمجهود الدراسة في الكلية حتى كانت سوزان بين يدى أشهر الأطباء من أساتذة الجامعة. ولن تنسى سوزان يوم أن وقفت بجسد تعبان وذهنٍ حيران تستمع من خلف الجدران ما يقوله أستاذ التحاليل لتسمع كلمة «سرطان» نعم «سرطان الدم» - كلمة كانت كالسهم طعنتها بسيف الأحزان فيما داخل الكيان.
مرة أخرى كانت سوزان تجلس ونفسها دخلت إلى الحديد لتلعب على البيانو الجديد ولكن هذه المرة كانت بنفسها المُرّة فلم تعزف سوزان ألحان القلب الفرحان كما كان منذ شهور من الزمان لكنها عزفت ألحان الأشجان وكانت وكأنها تناجي هذا السرطان .. أيها السرطان يا منبع الأحزان .. ألم تتعلم شيئًا عن الحنان .. ألا تعرف أن تُفرِّق بين إنسان وإنسان بين فقير وسلطان أو بين الشيوخ والشبان، بين إنسان فرحان وآخر يغرق في الأحزان. ولا حتى بين البنات أو الفتيان .. فيا لك من سرطان غبي وجبان.
تلاشت كل وعود الأب من صرف ملايين الجنيهات على سوزان لتغير الدم في مستشفيات أوربا فلقد ساءت الحالة سريعًا وفي ثلاثة أيام كانت سوزان تنام وقد فقدت الوعي بالتمام ولكن فجأة استيقظت سوزان من الغيبوبة وكان الأب يمسك بيدها اليُمنى والأم بيدها اليُسرى وعندما نظرت إليهما انهارت سوزان في بكاء رهيب ثم تكلمت وقالت لهما : بابا .. ماما .. أشعر أني سأغادر الأرض عن قريب وأحاول أن أغفر لكما ولكن لا أستطيع.
كانت هذه الكلمات كالعاصفة الصاعقة على والديها ولا سيما كلمة «أغفر لكما» فقال لها الأب وهو يحاول أن يتمالك دموعه بلا جدوى .. تغفري لنا يا بنتي .. تغفري ماذا؟ على .. وعندها قاطعته سوزان قبل أن يكمل جملته .. بابا. ليس لأجل الصيدلة أو العربة ولا النادي أو البيانو فأنا مديونة لكما بالشكر لأنكما علمتماني كيف أعيش عيشة كريمة ولكن يا بابا لم تعلماني كيف أموت ميتة سعيدة، فها أنا أغادر الأرض، والظلام يحيط بي ولن يُفيدني كل ما تعلمته عن الحياة السعيدة في لحظات موتي الرهيبة. أنا خائفة ومُرتعبة ولا أعلم ماذا سيصادفني بعد الموت .. ليتني ما تعلمت كيف أعيش في أحلام وأوهام ولكن تعلمت كيف أموت في هدوء وسلام .. قالتها سوزان ثم رددت كلمات عن النيران والأحزان عن الظلام والآلام ثم رحلت بدون سلام في رُعب إلى أبدية لا نهاية فيها للسنين والأيام. وعندها صمت بيانو سوزان عن الألحان فبعد أن عزف سيمفونية الأفراح ثم تلتها سيمفونية الأتراح والجراح .. صمت بدون أي همس أو صياح .. صمت في مساء بلا صباح .. لقد عرفت سوزان في حياتها السلم الموسيقى ولكنها لم تكن تعرف اللحن الحقيقى .. اهتمت بحياتها الأرضية ولكن لم تعرف الحياة الأبدية ولا غرض كل التسبيحات الملائكية - الرب يسوع فادي ومخلص البشرية ..
صديقي .. صديقتي .. اسمح لي أن أسألك وبدون أي تشاؤم .. أين ستكون في الأبدية؟؟ وإن كنت تسألني وهل يمكن للإنسان وهو على الأرض أن يعرف مستقبله الأبدي أم أن هذا سر لا يُعرف إلا بعد الموت أقول لك يا صديقي: بل هنا على الأرض والآن عليك أن تعرف مستقبلك الأبدي، وسأقدم لك بعض البراهين على ذلك : -
(1) من وعود رئيس الحياة : لقد وعدنا «الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة (يوحنا 5: 24 أنظر يوحنا 3: 14-20، يوحنا 6: 37،47، يوحنا 11: 25، يوحنا 14: 1-6).
(2) من الكتاب المقدس وما احتواه : «أما الصدِّيق فواثق عند موته» (أمثال 14: 32) (أنظر رسالة تيموثاوس الثانية 1: 10؛ رسالة يوحنا الأولى 5: 13، 3: 14).
(3) من سفر الحياة : «.. العاملين معي الذين أسماؤهم فى سفر الحياة» (فيلبي 4: 3) فالمؤمنون وهم على الأرض يعرفون أن أسماءهم مكتوبة في سفر الحياة ولن تُمحى أبدًا - أنظر (لوقا 10: 20؛ رؤيا 20: 11-15).
(4) من سير القديسين فى الموت والحياة : فها الرسول بولس يرى أن الموت ربح ويشتهيه (فيلبي 1: 21،23). ولقد ذهب القديسون على مر العصور إلى الزيت المغلى وإلى الأسود وهم يرنمون لأنهم كانوا يثقون أن لهم حياة أبدية (أنظر أعمال 7: 54-60 ؛ بطرس الثانية 1: 14 ؛ رؤيا 2: 10).
(5) من اختبارات الحياة : فقبل أن تسافر بالقطار تحجز تذكرة، وبالطائرة تأخذ تأشيرة على جواز السفر ثم تحجز تذكرة طيران فكم تكون الرحلة الأبدية. فالمؤمن مواطن سماوي وجالس في السماء - أنظر (فيلبى 3: 20؛ أفسس 2: 6). فهل تصلي معي الآن بإيمان :
صلاة - - يا من أبطلت الموت عندما مُت على الصليب .. أومن بك أيها الحبيب .. امنحني الحياة الأبدية والسلام العجيب فيفرح قلبي الكئيب .. آمين.