عاش الطفل يسوع مع مريم أمه ويوسف النجار، الذي اعتبره الكثيرون أبوه كما نقرأ القول في متى13: 55 «أ ليس هذا ابن النجار؟» وفي لوقا4: 22 «أ ليس هذا ابن يوسف؟»· لقد عاش حياة بسيطة عادية متضعة في مدينة الناصرة «وجاء (يسوع) إلى الناصرة حيث كان قد تربّى» (لوقا4: 16)·
وقضى سيدنا العظيم حياته الأولى في مدينة الناصرة؛ يتعلّم ويعمل في النجارة مع يوسف، فيُقال عنه: «أليس هذا هو النجار ابن مريم؟» (مرقس6: 3)· لقد افتقر الغني من أجلنا، تشارك معنا في كل شيء، ليرفع من وضعنا، ويصحِّح المفاهيم البشرية الخاطئة لتقييم الإنسان، مؤَكِّدًا ما نقرأه بعد ذلك «اختار الله جُهّال العالم ليخزي الحكماء· واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء· واختار الله أدنياء العالم، والمزدرى، وغير الموجود، ليُبطل الموجود· لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه» (1كورنثوس1: 27-29)·
ويمكن تقسيم هذه الفترة إلى مرحلتين نتأمل ببعض التفاصيل فيهما:
أولاً: مرحلة الطفولة - من الولادة وحتى سن اثنتي عشر سنة
ويمكن تلخيصها في العبارة «وكان الصبي ينمو ويتقوى بالروح ممتلئًا حكمة وكانت نعمة الله عليه» (لوقا2: 40)
1- كان ينمو ويتقوّى بالروح: إن هذه المرحلة هي مرحلة النمو الجسدي والعقلي، ويجب علينا الاهتمام بذلك حتى لا تتأثر حياتنا مستقبلاً، ولنَصِل إلى النضوج الصحيح جسديًا وروحيًا·
2- ممتلئًا حكمة: حيث أن ذهن الإنسان هو المُحرّك الرئيسي لحياته «لأنه كما شعر (افتكر) في نفسه هكذا هو» (أمثال23: 7)؛ لذلك من المهم جدًا ليس الاهتمام فقط بنمو ونضوج الجسد، بل بنضوج العقل أيضًا؛ ليس عن طريق كمية المعلومات التي نحفظها بل عن طريق ممارستها وتطبيقها بأساليب صحيحة·
3- كانت نعمة الله عليه: لقد عاش الطفل يسوع في شركة مستمرة مع الله، وانطبق عليه القول في مزمور91: 1 «الساكن في ستر العلي، في ظل القدير يبيت» وكانت كلمة الله غالية عليه لذلك كُتب عنه «وشريعتك في وسط أحشائي» (مزمور40: 8)·
في عالم يسيطر عليه عدو الخير بأفكاره وطرقه الهدّامة نحتاج أن نعيش دائمًا في داخل دائرة نعمة الله·
ثانيًا: مرحلة الشباب - من سن الثانية عشر وحتى سن الثلاثين سنة
وتتلخص في القول «وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس» (لوقا2: 52)
تبدأ هذه المرحلة في حياة سيدنا العظيم بالقصة المعروفة لدينا والمذكورة في لوقا2: 40-52، عندما ذهب مع مريم أمه ويوسف إلى الهيكل في العيد كما كان يفعل قبل ذلك في مرحلة الطفولة· وفي طريق رجوعهما إلى الناصرة فتشا عليه بين الرفقة فلم يجداه، ثم بحثا عنه لمدة ثلاثة أيام ولكن في أماكن خاطئة فلم يجداه؛ وأخيرًا دخلا الهيكل، كمحاولة أخيرة، ففوجئوا به جالسًا وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم وكل الذين سمعوه بُهتوا من فهمه وأجوبته· فلما أبصراه اندهشا، وقالت له أمه: «لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين»، فكان ردّه الواضح «لماذا كنتما تطلبانني؟ أ لم تعلما أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي؟»· ثم بعد ذلك «نزل معهما وجاء إلى الناصرة وكان خاضعًا لهما»·
دعونا نقف هنا قليلاً لنتأمل في هذه الحادثة بدروسها العظيمة:
1- وجداه جالسًا·· وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم: لم ينشغل الفتى يسوع بمظاهر العيد واحتفالاته، ولا بأن يكون وسط الرفقاء والأقارب؛ بل كل ما كان يشغله هو كلمة الله وتعلُّمها· لقد كان بحق «في ناموس الرب مسرته وفي ناموسه يلهج نهارًا وليلاً، فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه التي تعطي ثمرها في أوانه وورقها لا يذبل وكل ما يصنعه ينجح» (مزمور1: 2 ،3)·
2- ينبغي أن أكون فيما لأبي: إن مرحلة الشباب هي مرحلة تكوين الشخصية، وهكذا أراد الفتى يسوع أن يؤكِّد أن الأهمية الأولى في الحياة ليست لأمور الزمان، التي أصبحت مشغولية الكثيرين، بل إن العلاقة مع الله والسير معه وبحسب مشيئته، هي الأولوية الأساسية· وبحق كُتب عنه «أن أفعل مشيئتك يا إلهي سُررت» (مزمور40: 8)·
3- نزل معهما·· وكان خاضعًا لهما: مع أن مريم أمه ويوسف لم يفهما الكلام الذي قاله لهما، لكنه نزل معهما وكان خاضعًا لهما· إنه يضع هنا أساسًا واضحًا لمفهوم الخضوع والطاعة للسلطات المُرتّبة من عند الله بدايةً من الأبوين· ربما يكون هذا صعبًا على الطبيعة البشرية التي تحب الاستقلالية وفعل الإرادة الذاتية ولا سيما في مرحلة الشباب· ومع أن رأي الآخرين قد لا يكون صحيحًا تمامًا، ولكن هنا نتعلم أن هذا ليس مبرِّرًا للتصميم على ما نريده أو التمرد والعصيان، بل من المهم أن نتعلم الطاعة من بداية حياتنا في الأمور الصغيرة، الأمر الذي سيسهِّل علينا الطريق للطاعة الصحيحة في المستقبل، والتي ستقودنا للنمو والنضوج الحقيقي· ولا ننسَ قول الكتاب في أفسس6: 1-3 «أيها الأولاد أطيعوا والديكم في الرب لأن هذا حق»·
4- كان دائم التقدم في المجالات الآتية:
أ) الحكمة: وهي أساس الحياة الصحيحة الناجحة «إذا دخلت الحكمة قلبك ولذّت المعرفة لنفسك فالعقل يحفظك والفهم ينصرك» (أمثال 2: 10 ،11)· إنها بحق أعظم من كل كنوز الأرض (أمثال8: 11)· ولكن بالطبع علينا أن نُفرِّق بين الحكمة الأرضية النفسانية الغاشة، والحكمة الإلهية الصحيحة النازلة من فوق؛ والتي نستطيع الحصول عليها فقط في مخافة الله (أمثال9: 10)·
ب) القامة: لقد كان يتقدم في المكانة في جميع مجالات الحياة، فلم يكن هناك مجال لتضييع الوقت في أمور الحياة الوقتية الزائلة، والتي اختبرها سليمان قديمًا وقال عنها: «الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس» (جامعة2: 11)· لقد عاش حياة جدّية، ليس كما يعيش معظم الشباب، فهذه هي المرحلة التي يتعلم فيها الإنسان ويتدرب لكي يتأهل لحياته المستقبلية· وبحق كُتب عنه «هوذا عبدي يعقل·· ويتسامى جدًا» (إشعياء52: 13)·
ج) النعمة عند الله والناس: لقد عاش سيدنا بحق «مملوءًا نعمة» لقد اهتم بحياته الزمنية أمام الناس، وكذلك علاقته ووضعه أمام الله· لقد تحقق فيه القول «هوذا فتاي الذي اخترته· حبيبي الذي سُرّت به نفسي··· لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته· قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفئ» (متى12: 18-20)·
هذه كانت حياة سيدنا العظيم في مرحلة الشباب فماذا عنك أنت يا أخي الشاب وأختي الشابة؟
أ لم يأتِ الوقت لنتحول عن الأفكار البشرية والنماذج الخاطئة المحيطة بنا، ونثبِّت النظر فيه، ونتعلم منه عمليًا؟ وهكذا تكون النتيجة «تجدوا راحة لنفوسكم»·