كنا نظن أنه بعد الإيمان ستُوَلّي أيام الحزن والمعاناة· وأن الطريق سيكون مفروشًا بالورود·· وكيف لا ومُخلِّصنا الحبيب قد ضحّى بالكثير لينقذنا من عبودية الشيطان؟ فكيف لا يهبنا أيضًا كل شيء؟! وإذا بالمفاجآت تتوالى· فبمجرد الانتهاء من ترنيمة الفداء، وفي نشوة فرحة الخلاص نُفاجأ أن كل شيء ضد الرغبات والاحتياجات· نفاجأ أن الأرض ناشفة ويابسة وبلا ماء، أرض عقارب وحيّات؛ شمسها حارقة، وبردها قارس· ما هذا؟!
هذه هي البرية التي اجتازها الشعب، كحقيقة ملموسة ومُختَبَرة، بدأت لهم من هذه المحطة· فقد تحركت القافلة من محطة الترنيم بقلوب طيبة ونفوس فرحة· وأصبحت مصر بمعاجنها، وفرعون بقسوته، مجرد ماضٍ ولّى وعَبَرَ؛ فالرب قد تعظّم وأخرجهم بقوته· وها هم قد ولّوا وجوههم لمستقبل مليء بالأماني· وبالتأكيد سَرَحَ خيالهم في الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً، وتوقعوا أن وجودهم في هذه الصحراء لن يدوم كثيرًا، بل ستكون رحلة قصيرة خالية من الأتعاب والصعوبات، وفيها كل المشتهيات والاحتياجات· فيها سنمُر على محطات راحة مليئة بعربون الأرض البهية·· وفيما هم متفكرون في انتصار الماضي وآمال المستقبل، إذ بهم يفيقون - بعد ثلاثة أيام من المسير - وعيونهم تقع على لافتة مكتوب عليها: محطة مارة
لقد نفدت المياه التي كانت معهم، وشعروا بالعطش الشديد، ونظروا فإذا مياه أمامهم، فتدافقوا ليشربوا، وإذ بالمفاجأة: أن المياه مُرّة· فماذا فعلوا؟ أمام الظروف الصعبة والمُرّة يوجد فرق بين مؤمن وآخر؛ كالفرق بين موسى والشعب· فالشعب وضع عينه على الظروف فتذمّر· وموسى رفع عينه إلى الرب فصرخ له· وهنا يأتي السؤال·
لماذا البرية ومرارتها؟ لم يكن في قصد الله أن يُخرج الشعب من ذُلِّ وتعب مصر إلى ذُلٍّ وتعبٍ آخر· بل قصد من وراء البرية دروس لهم ولنا، نذكر منها:
1- لنعرف أنه لا يوجد شيء في العالم يُشبع أو يروي أو يريح المؤمن، فعلينا ألا ننتظر منه شيئًا·
2- لكي نعرف مَن نحن؛ عندما نكتشف طبيعتنا وضعفنا وعدم أمانتنا·
3- لكي نعرف من هو الرب في محبته ونعمته وطول أناته·
4- عندما نكتشف أننا لا شيء، وأن الرب هو كل شيء؛ يقودنا هذا لأن نستند ونتكل على الرب فقط·
5- البرية هي للامتحان (خروج15: 25) اللازم لمعرفة قلوبنا ولتزكية إيماننا·
ما هي البرية؟ عرّفها أحد رجال الله بأنها كل ما في العالم بالنسبة للطبيعة الجديدة، وكل ما في الحياة الجديدة بالنسبة للطبيعة القديمة·
علاج مرارة البرية: في ذات زمان ومكان مارة، كانت الشجرة موجودة· لكن للأسف لم يرَها أحد حتى موسى، الرب هو الذي أراه إياها·
درس مارة والشجرة: قد يسمح الرب لنا بظروف صعبة· وقد يحرمنا من أمور هي مطلب طبيعي (كمياه الشرب للشعب)· قد تشتدّ الظروف بقسوتها، والحياة بمرارتها· والرب لا يعطينا ما نرغب أو نريد أو نحتاج إليه· بل أحيانًا ما نجده هو ضد رغباتنا· والعجيب أن ما يحرمنا منه موجود وبكثرة بين يدي الأشرار (اقرأ مزمور73)·
صديقي: هي حكمة الله العجيبة التي تدير كل شيء لخير أحبائه، وسيُخرج لنا من هذا خيرًا قد لا نراه الآن، وما علينا إلا أن ننتظر الرب ونصبر له· وفي وسط هذا فالعلاج موجود، إنه المسيح المصلوب - الشجرة المقطوعة - المكتوب عنه «نَبَت قدامه كفرخ وكعِرق من أرض يابسة··· قُطع من أرض الأحياء، أنه ضُرب من أجل ذنب شعبي» (إشعياء53: 2 ،8)· إنه العلاج الوحيد لكل شيء، لقد مات وقام ليحوِّل مرارتنا لعذوبة وحلاوة·
صديقي القارئ:
- قد تكون بريتك هي بيتك حيث لا مكان للمسيح فيه، وكلمات الاستهزاء بك وبحياة الإيمان التي لك «وأعداء الإنسان أهل بيته»!!
- وقد تكون بريتك هي مدرستك أو كليتك، حيث المظاهر العصرية الشريرة والمناظر المثيرة والكلمات الصعبة والمعاشرات الردية···!!
- وقد تكون بريتك هي مكان عملك حيث لا شيء من مخافة الرب، بل الكذب والنفاق والسرقة والتزوير·· واضطهادك لأنك ترفض أو تعترض!!
ولكن لا تيأس فالعلاج موجود· العلاج أن تأخذ معك المسيح أينما كنت· تأكد من معيّته لك، تفكَّر فيه· تذكَّر وردِّد آية حفظتها·· أو خدمة سمعتها·· أو مقالة قرأتها· ضع المسيح في كل ظروفك، فيتغير مذاقها، حتى وإن استمرت مارة كما هي·
الرب شافيك: كنا ننتظر القول «أنا الرب شافي المياه» لكنه يقول «شافيك (أنت)»· ونفهم من هذا أن الشعب هو الذي يحتاج للشفاء، وليس الماء· فالرب يريد، من وراء ضغط الظروف ومرارتها، أن يعالج شيئًا دفينًا فينا، لا يظهر في الظروف العادية· ألا تقول معي: ما أعظم أعمالك يا رب·· فلتكن البرية كما تكون، إن كنا من وراءها نكتشف أعماق جديدة لقلب مسيحنا المحب·