كان المشهد لافتًا للغاية، كما كان جَدُّ مخجلاً؛ في صالة الاستقبال الرئيسية في أحد الفنادق الكبري بالعاصمة، شوهدت سيدة أنيقة تسير بخطًى متعجِّلة، تحمل علي إحدى ذراعيها كَلبًا "لولو" صغير تتدلي من عنقه سلسلة ذهبية، وعلي الذراع الأخرى تحمل حقيبة يد منتفخة، وفي كلتاهما - أعني الذراعين - كمٌّ لا بأس به من الأساور والحُليّ الذهبية، تجلجل بها في كل خطوة معلنةً عن قدومها، وخلف السيدة يهرول رجل متانِّق - علي الأرجح هو زوجها! إلي هنا والأمر يبدو طبيعيًا في مثل هذه الأماكن، أو قُل إنه مألوف!!
أما ما حدث بعدئذ فهو اللافت والمخجل·
عثرت قدم السيده بطريقة أو باخرى؛ ربما كان رخام الأرضية الأملس، أو بسبب طرف السجادة الوثيرة في صالة الاستقبال، أو سقوط كلب (اللولو) تحت أقدامها - خاصة وأن نظرها كان زائغًا في أرجاء الصالة، وكأنها تريد أن تمسح كل الموجودين بناظريها· ولم نَدْرِ إلا وقد افترشت هذه السيدة أرضية الفندق منبطحة، وكلبها يعوِي منزعجًا، ورجُلها يحملق منذهلاً· أما محتويات الحقيبه فقد تناثرت في كل الأرجاء؛ وهنا كان ذهول الحاضرين، والذين هرعوا للسيدة لمساعدتها؛ إذ رأوا من ضمن ما تناثر من محتويات حقيبتها:
بعض الفضيّات الخاصة بالفندق، وعشرات من قطع الشيكولاتة والحلوى (الملبِّس) التي كانت موجودة في بعض الآنية الفاخرة الموضوعة في مدخل الفندق كنوع من التحية والترحيب، والتي انتقلت بطريقة ما إلي حقيبة السيدة في غفلة عن أعين الحاضرين· وأنا علي يقين من أن السيدة وزوجها قد تَمَنَّيَا أن ينشق رخام أرضية الفندق ليبتلعهما، هربًا من خجل هذا الموقف· لقد انكشف المستور، وظهرت دناءة السيدة بطريقة مزرية·
صديقي: أتمنى ألا يأتي يوم تتعرض فيه لتلك المواقف المحرجة أبدًا· إلا أنه يلزم لذلك شيء هام، وهو ألا تفعل سرًّا ما تخجل من أن ينكشف ويظهر علنًا·
وأنا عندما شاهدت هذا الموقف نصحت نفسي، وكذا أنصحك صديقي بالتالي:
1- لا تكن مرائيًا
حذَّر المسيح بشدة من الرياء؛ من صورة مزيَّفة نحرص على أن نجمِّلها أمام الناس، ونحن نُظهر غير ما نُبطن· صديقي: إن ما نحاول جاهدين اخفاءه عن أعين الناس هو واضح ومكشوف لعيني ذاك الذي يري في الخفاء (متى6: 4 ،6)· إن كل شيء عريان ومكشوف قُدَّامه (عبرانيين4: 13)· لقد حذَّر المسيح بشدة من الرياء، وما أكثر ما قاله للمرائين موبِّخًا إياهم· قال لتلاميذه يومًا: «تحرّزوا لأنفسكم من خمير الفريسيين الذي هو الرياء، فليس مكتوم لن يُستعلَن ولا خفيٌ لن يُعرَف» (لوقا12: 1 ،2)· قال عن الفريسيين إنهم مثل القبور المبيَّضة من الخارج، ومن الداخل ملآنة عظام أموات!
صديقي: إن نجحت في أن تُخفي ما تصنعه ليبقى سرًّا خافيًا عن أعين كل البشر، فكيف يَخفى على الله؟!
قال له داود ذات يوم: «أنت عرفت جلوسي وقيامي· فهمت فكري من بعيد· مسلكي ومربضي ذريتَ، وكل طرقي عرفت· لأنه ليس كلمة في لساني إلا وأنت يا رب عرفتها كلها··· إن صعِدت إلى السماوات فأنت هناك، وإن فرشتُ في الهاوية فها أنت··· الظلمة أيضًا لا تُظلم لديك، والليل مثل النهار يضيء· كالظلمة هكذا النور···
لم تختفِ عنك عظامي حينما
صُنعت في الخفاء ورُقِمت في أعماق الارض···»؛ لذا فقد صلَّى في النهاية قائلاً له، وهو العليم بكل شيء: «اختبرني يا الله واعرف قلبي، امتحني واعرف افكاري، وانظر إن كان فيَّ طريقٌ باطلٌ، واهدني طريقًا ابديًا» (مزمور139)·
2- اسلك في النور
السلوك في النور لا يُقصد به أن أعيش حياة كاملة خالية من الخطية؛ بل يعني أن أكون سائرًا في طريقي وقلبي وضميري مكشوفَين أمام الله· أن أسلك - من الآن فصاعدًا - في حضرة الله· فإن زَلَّت قدماي يومًا، فما أسهل وما أسرع أن يكشف النور عن خطيتي، فأعترِف بها فورًا أمام الله، وأتركها متطهِرًا بدم المسيح الذي «يطهر من كل خطية» (1يوحنا1: 7)·
إن السلوك في النور هو الإجابة عن سؤال يبدأ بـ"أين" وليس "كيف"· والإجابة الصحيحة عن السؤال الأول - وهي "اسلك في النور" - ستقود إلى الإجابة الصحيحة عن السؤال الثاني: "اسلك بحسب النور"· أي سلوكًا صحيحًا غير معيب·
لنكن متمثّلين بسيدنا الذي عاش بحسب النور بصورة كاملة؛ سألوه يومًا: «من أنت؟»
فأجاب: «أنا ما أكلمكم به» (يوحنا8: 25)! لقد عبَّرت حياته - تبارك اسمه - عن كل ما تكلم به، فلم ينطق بكلمة لم يَعِشها!
3- اتَّقِ الرب
قالها الحكيم في نهاية حياته واختباراته: «فلنسمع ختام الأمر كله: اتقِ الله واحفظ وصاياه، لأن هذا هو الإنسان كله» (جامعة12: 13)· إن التقوى هي خُلاصة مطالب الله من شعبه، إنها مخافة الله في السِرّ وفي العلن، طاعته ومحبته واحترامه، بغَضِّ النظر عمن يراني في ذلك الوقت· لذا صديقي؛ لا تفعل في الخفاء ما تخشى أن ينكشف يومًا فيُخجلك· إن عين الله تراك في كل وقت أينما كنت، لذا فلنحترص أن نكون مرضيين عنده، لأنه في
يوم قريب قادم سنُظهر أمام كرسي المسيح· وحسنًا قيل عن ذلك: "ليس فقط مجرد ظهورنا، بل إظهارنا"؛ أي سوف تُكشَف حياتنا جميعًا في حضرة المسيح (2كورنثوس5: 10)· في هذا الموقف سوف يُنير الرب خفايا الظلام، ويظهر آراء القلوب؛ فيُمدَح من يستحق المديح، ويُكافأ من كان أمينًا مخلصًا· ويصلي بولس لأجل قديسي فيلبي أن يكونوا مخلصين وبلا عثرة إلى يوم المسيح (فيلبي1: 10)؛ مُخلصين كما تأتي في اليونانية "شفافين" إذا سُلِّط عليهم نور الشمس· ليتنا نعيش كذلك الظاهر كالباطن، السرّ كالعَلَن خائفين الرب، فهذا هو الانسان في أفضل صورة، وذا هو قصد الله لحياتنا·