ما أقل ما جاء عنه في قصة حياة المسيح.
لكن ما أعمق ما نتعلّمه منه في ما ذكره الوحي.
إنه واحد من أعظم الناس على الأرض. وإن كان قد عاش فقيرًا لكنه كان من أنبل النفوس وأشرفها؛ ويكفي أنه صمد أمام موقف لم يحدث أبدًا لغيره من الناس، ولا يخطر أبدًا على الذهن البشري.
يوسف وخلفيته
مما ذُكر في بشارتي متى ولوقا نفهم أن يوسف النجار من نسل داود الملك. ومن دراستنا نسب المسيح المدونتين في متى ولوقا نلاحظ الآتي:
1- متى وهو يكتب إلى اليهود عاد بنسب المسيح إلى يوسف، لأن المسيح حُسب ابن يوسف بالتبني، ودُون في السجلات منسوبًا إليه - وفي ذات الوقت يؤكِّد متى أن العذراء حُبل فيها من الروح القدس.
2- لوقا كتب للأمم الذين لا يعنيهم ارتباط يوسف بالمسيح، لذا تحوَّل لنسب العذراء نفسها. لذا فإن يعقوب (متى 1: 16) كان أبًا ليوسف، بينما هالي هو أبو مريم العذراء (لوقا 3: 23) وكان خطيب الابنة يدعى ابنًا، ومن هنا جاءت العبارة وهو على ما كان يظن ابن يوسف ابن هالي (لوقا 3: 23).
3- من الواضح أن يوسف جاء من سلسلة سليمان الملك ابن داود، بينما جاءت العذراء من سلسلة ناثان ابن داود (قارن متى 1 مع لوقا 3).
يوسف وخُلُقه
1- الرَجُل الفقير البار:
كان يوسف نجارًا حسب عادة اليهود بضرورة تعليم أولادهم حرفة فقراء كانوا أم أغنياء، لكن واضح أنه كان فقيرًا للغاية. ويتضح فقره العميق من التقدمة التي قُدِّمت بعد ميلاد المسيح «زوج يمام أو فرخ حمام».
ومن يتصور أن هذا الرجل الفقير جدًا كان هو الوارث لعرش داود!! نعم إن أفكار الله تختلف كُلّيةً عن أفكار الإنسان، فإن الله يختار أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود (1كورنثوس 1: 26-31).
ولماذا نتعجب من فقر يوسف؟ أ لم يأتي ربّ المجد نفسه إلى عالمنا في أفقر صورة، حقًا هذه هي نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلنا افتقر وهو غني لكي نستغني نحن بفقره (2كورنثوس 8: 9).
هذا الرجل الفقير كان بارًا أي ”مستقيم“ و”مطيع لوصية الله“. وما أروع أن يتميّز الإنسان بخوف الله والطاعة لوصاياه، وأن يكون مستقيمًا لا يعرف سوى الاستقامة في كلامه وأفعاله ومعاملاته، بلا التواء. آه ما أحوجنا الآن إلى مثل هؤلاء الأشخاص!!
2- الرَجُل النبيل الأخلاق:
كيف واجه يوسف التجربة المُرّة التي تعرض لها؟؟
«لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجِدت حُبلى من الروح القدس. فيوسف رَجُلُها إذ كان بارًا، ولم يشأ أن يشهرها، أراد تخليتها سرًا» (متى 1: 18، 19). يا لها من تجربة صعبة تواجه رجلاً تقيًا بارًا؟ فكيف يكون حبل خطيبته من الروح القدس؟ وكيف يكون الابن الذي سيولد هو ابن العلي؟ بلا شك أن يوسف سمع القصة من مريم ودخل في صراع رهيب، ومما زاد حيرته أنه يريد أن يتصرف باستقامة خاضعًا لشريعة الله لكنه، في ذات الوقت يعرف طهارة خطيبته، وهو بلا شك يحبها ويحنو عليها، ويريد أن يرحمها؛ فكيف يوفِّق بين استقامته ومحبته لها، وبين كونه بارًا، ورغبته أن يكون رحيمًا تجاهها؟!
وهنا، ما أبعد الفارق بينه وبين يهوذا ابن يعقوب، قديمًا، الذي بمجرد أن عرف أن كنّته ثامار زنت أمر باخراجها خارجًا وحرقها، مع أنه هو نفسه كان الجاني!!
أما يوسف فلأنه كان بارًا لم يشأ أن يشهرها، أي يعلن أمرها على الملأ، لكن أراد تخليتها سرًا.
الخطبة عند اليهودي أشبه بالزواج، لا يبقى فيه سوى الممارسة الفعلية في يوم القِران. ولذا فالخطيبان يصبحان أمام الله والناس زوجين، وأيّة مخالفة لهذا العهد تحكمه قواعد الحياة الزوجية.
وكان أمام يوسف سبيلان للتخلص من العذراء: السبيل الأول: هو السبيل العلني؛ والذي فيه يتخلّص منها كلّيةً، مع ما فيه من تشهير رهيب بمركزها وسمعتها، فيعطيها كتاب طلاق. والسبيل الآخر هو السبيل السري؛ إذ يخليها من الرابطة الزوجية سرًّا أمام اثنين من الشهود. وهو في هذه الحالة لا يتهمها بنفس التهمة، كما في الحالة الأولى، بل هو اصلاً مبني على الكراهية.
ودخل يوسف في صراع رهيب بين رغبته في التصرف باستقامة قدام الله، ومشاعر قلبه المليء بالسماحة والرقّة والحنان.
3- رَجُل التفكير والتأني والصلوات:
«فيما هو متفكر في هذه الأمور إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلاً...».
لا ندري كم من الوقت مضى وهو في حيرته: أيام، أم أسابيع، أم شهور؟ لكنه على كل حال لم يكن مندفعًا في اتخاذ قراره، بل مزج تفكيره وانتظاره بالصلوات. ولم تذهب صلواته عبثًا، وجاء الملاك إليه وكشف له الحقيقة في حلم.
ألا نتعلم أنه لمّا تكون دوافعنا مُخلصة قدام الرب ونتمهل في اتخاذ القرارات ولا نتسرع في أحكام قاسية على الغير، ونكثر من الصلوات، لن يتركنا الرب للخطإ، ولن يتأخر علينا، بل لا بد أنه سيرشدنا بوضوح شديد، وله في هذا طرقه الكثيرة. إنه سيحوّل قلقنا إلى راحة، وخوفنا إلى أمن، وشكّنا إلى يقين، وحزننا إلى فرح عظيم.
يوسف ودوره
«فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما أمره ملاك الرب وأخذ امرأته»
تميّز يوسف بالطاعة الدائمة لصوت الرب، فقد ضمّ العذراء مريم إليه بناءً على أمر الرب له. وأكرمه الرب بأن أعطاه أروع الإعلانات عن الطفل المولود، فكان عليه أن يُسميه يسوع الذي سيخلص شعبه من خطاياهم؛ ثم ادرك أن المولود هو عمانوئيل المُتنبأ عنه قديمًا، وبالتالي فإن مريم هي تلك العذراء المتنبأ عنها أيضًا. كان هو حاضن المسيا ومربيه ”وقد فاز بيته الفقير بهذا الشرف الرفيع الذي لم يُمنح لأصحاب القصور في الأرض“ كما قال أحدهم.
ثم بعد ذلك تحرك إلى مصر بناءً على أمر الرب، وعاد منها بناءً على أمر الرب أيضًا.
لقد أدرك يوسف الشرف العظيم الذي ناله: أن يعتني بالمسيا، وأن يقوم له بدور الآب. ولا ندري كم من الوقت قضاه يوسف مع المسيح، إذ لا نسمع عنه بعد الاثنتي عشر سنة الأولى من حياة الرب؛ لكننا نعلم أنه قام بدوره نحوه كأفضل وأروع ما يكون الدور.
وكافأه الله لا فقط بأن المسيح نُسب إليه في السجلات الرسمية، بل أنه هو نُسب إلى رب المجد في السجل الخالد، الكتاب المقدس.