في كل مرة سافرت فيها بالطائرة، نهارًا، وتطلّعت من النافذة، أمكنني أن أرى مجاري الأنهار المتعرجة. وباستثناء بعض مجاري الماء التي يصنعها الإنسان، تشترك جميع الأنهار في أمرٍ عام ٍّواحد، ألا وهو أنها جميعًا متعرِّجة ومعوَّجة.
أما السبب البسيط الكامن وراء هذه الظاهرة فهو أن الأنهار تسلك السبيل الذي تلقى فيه أقلَّ مقاومة، فتشقُّ طريقها حول أيّ شيءٍ يعترض جريانها، لأنها تسلك السبيل السهل.
والأمر عينه يمكن أن يُقال عن بعض الناس، فلأنهم يخفقون في مقاومة إبليس، يستسلمون للتجربة وينحرفون عن سُبُل البرِّ التي يريد الرب أن يسلكوا فيها. وعندما ينشط عمل الشر والفساد والشيطان في الأرض، فكثيرون - خوفًا من رعب العدو - ينحنون تحت الضغوط الدنيوية ويُساوِمون على ما يعلمون أنه حقّ، ويستسهلون أن يسيروا في مسالك مُعوجةٍ، في طرق موحشة جانبية «وَعَابِرُو السُّبُلِ سَارُوا فِي مَسَالِكَ مُعْوَجَّةٍ» (قضاة5: 6).
ويا لها من صورة ترسم آثار الضعف الروحي. لقد استطاع المرنم أن يقول «يَهْدِينِي إِلَى سُبُلِ الْبِرِّ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ» (مزمور23: 3)؛ وفي سُبل البر المستقيمة لا خوف من العدو «مَنْ يَسْلُكُ بِالاِسْتِقَامَةِ يَسْلُكُ بِالأَمَانِ» (أمثال10: 9). أما المسالك المُعوَجَّة فهي إشارة إلى عدم الثبات والذبذبة اللذين يميزان الإيمان الهزيل.
كتب الرسول يوحنا إلينا أن في وسعنا أن نكون ظافرين في صراعنا ضدَّ الشر، مبيّنًا السبب: «لأَنَّ الَّذِي فِيكُمْ أَعْظَمُ مِنَ الَّذِي فِي الْعَالَمِ» (1يوحنا4:4). فبدل أن نكون مغلوبين، نستطيع أن نصير غالبين. ولا ينبغي لشيء أن يعوِّقنا عن السير في السبيل المستقيم الذي يريد لنا الرب أن نسير فيه. فلا داعي لأن نستسلم لأيّة تجربة ولا لأي عدو. فالروح القدس الساكن فينا يقوّينا كي نظلَّ صامدين ثابتين. ولن نصير “معوَّجين” إن رفضنا انتهاج الطريق السهل وسبيل المقاومة الأقل. ولن نضلَّ حتمًا ما دمنا نسير في الطريق الضيِّق المستقيم (متى7: 13، 14).
إن هذا يذكّرني ببعض رجال الله الأفاضل الذين لم ينحرفوا أبدًا عن السبيل المستقيم الذي يريد الرب لكل منهم أن يسلك فيه، فلم يسلك أحدهم قط في مسالك مُعوَجَّةٍ، متعلِّلاً بالحكمة الإنسانية وعدم التصادم مع الآخرين أو ما أشبه من تعليلات الناس!
1 - فملك سدوم، عندما أراد أن يُعبّر عن تقديره للخدمة الجليلة التي قدّمها له إبراهيم، عرض عليه أن لا يأخذ سوى نفوس الأسرى، أما الغنائم والأملاك فيأخذها إبراهيم لنفسه. ولكن ملك سدوم رأى شيئًا ربما كان عنده أدعى إلى العجب من انتصار إبراهيم على الملوك الذين حاربهم، وهو انتصار إبراهيم على نفسه أمام أسلاب في قبضة يديه، يرفضها، يأباها، في الوقت الذي يسيل فيه لعاب الآخرين على الفُتات منها «فَقَالَ ابْرَامُ لِمَلِكِ سَدُومَ: رَفَعْتُ يَدِي إلَى الرَّبِّ الإلَهِ الْعَلِيِّ مَالِكِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، لا آخُذَنَّ لا خَيْطًا وَلا شِرَاكَ نَعلٍ وَلا مِنْ كُلِّ مَا هُوَ لَكَ، فَلا تَقُولُ: أنَا أغْنَيْتُ ابْرَامَ» (تكوين14: 21-23). ويا له من نموذج رائع وعجيب لغنى النفس المترفعة المتعففة!!
2 - ولقد رسخ في ذهن يوسف الشاب أن طريق البِرّ المستقيم هو الطريق الصحيح الوحيد الرائع إلى القوة والنجاح، مهما التوت السُبُل، وتعوَّجت الطرق، وانحنت المسالك. وعندما وجد أن الخطية تلاحقه يومًا فيومًا بإلحاحات مغرية، وبهزات عنيفة؛ بالرهبة أو بالرغبة، بالوعيد أو بالوعود، بالاضطهاد أو الإغراء، فإن محاولات زوجة فوطيفار جعلته يصحو ويسهر، إذ وجد نفسه في جبهة قتال وحرب شرسة. لقد عرف يوسف أن كل خطية هي طعنة في قلب الله، فهو لن يخطئ إلى فوطيفار، بل سيخطئ إلى الله أولاً، ولقد رأى الخطية، كما هي في عيني الله، أنها شر عظيم، فقال: «كَيْفَ أصْنَعُ هَذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَأخْطِئُ إلَى اللهِ؟»، وترك ثوبه وهرب إلى خارجٍ (تكوين39: 7-13).
3 - وموسى «لما كَبِرَ» - لما اعتز وصار عظيمًا - وأدرك أنه سيرث عرش مصر، عمل موازنة إيمانية: عرش مصر في كفة، وعار المسيح في الكفة الأخرى، ورجحت كفة العار على كفة العرش «أبى أن يُدعى ابن ابنة فِرعون». لقد كان للعقل حساب، وكان للإيمان حساب. أما حساب العقل فيقول: أمسك العصا من الوسط؛ احتفظ بالعرش واستخدم سلطانك كما تشأ. وكان حاسمًا في رفضه، فسار في الطريق المستقيم الضيق، ورفض كل ما في العالم «مُفَضِّلاً بِالأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ اللهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وَقْتِيٌّ بِالْخَطِيَّةِ. حَاسِبًا عَارَ الْمَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ» (عبرانيين11: 25، 26).
4 - وعندما أراد نعمان السرياني أن يقدم هدية سخية جدًا لأليشع كتعبير عن تقديره له، رفض أليشع أن يأخذ بكل إباء «فَقَالَ: حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي أَنَا وَاقِفٌ أَمَامَهُ، إِنِّي لاَ آخُذُ. وَأَلَحَّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ فَأَبَى» (2ملوك5: 16). لقد أراد أليشع أن يُعلِّم نعمان هذا الدرس: أن رجل الله ينظر إلى كل ثروة العالم باحتقار مقدَّس؛ إنه لا يسمح لنفسه أن يطمع في أخ مهما كانت ثروته، ومهما عرض من ذهب وفضة وثياب.
5- ودانيآل فضّل أن يموت على أن يكون غير أمين لإلهه، وامتاز بالأمانة الصحيحة في حياته الخاصة والعلنية بالرغم من أنه كان يعيش غريبًا، في مدينة وثنية مشهورة بشرورها الكثيرة، وفي أيام أقل ما توصف به أنها “أيام شريرة”، ولكنه استطاع أن يقاوم ويثبت وينتصر في “اليوم الشرير”. لقد كان مُمنطَقًا بالحق «فَجَعَلَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لاَ يَتَنَجَّسُ بِأَطَايِبِ الْمَلِكِ وَلاَ بِخَمْرِ مَشْرُوبِهِ» (دانيآل1: 8)، وربط عواطفه بكلمة الله التي تُنهي عن تناول مثل هذه الأطعمة حتى ولو كانت أطايب. لقد كان ولاء دانيآل الأول لله ولكلمته، ولما تعارض قانون الملك مع وصية الله، تصرف دانيآل باعتبار أنه «ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس» (أعمال5: 29)، فأطاع دانيآل الله رغم معرفته بالخطر الذي سيتعرض له بسبب طاعته لله (دانيآل6). وعندما عرض عليه بيلشاصر الملك أن يلبس الأرجوان وقلادة من الذهب في عنقه ويتسلّط ثالثًا في المملكة، اسمعه يرفض بكل إباء «لِتَكُنْ عَطَايَاكَ لِنَفْسِكَ وَهَبْ هِبَاتِكَ لِغَيْرِي» (دانيآل5: 17).
ليعطنا الرب نعمة لنكون في حالة السهر والوعي الروحي، لنكون مستعدين لمواجهة العدو والثبات ضد مكايده، فلا نسلك قَطّ في مَسَالِكَ مُعْوَجَّةٍ.