التقى الصديقان من جديد حسبما تواعدا، وبدا من البداية أن عند الشاب ما يقوله لصديقه الشيخ؛ فبادره بالقول:
- لم يبرح حديثنا الماضي من ذهني للحظة.
* يسعدني أنك فكَّرت في حديثنا كما اتفقنا. فهكذا يمكن للمرء أن يستفيد من الأحاديث الجادة: بالتفكير الصحيح الذي يقود إلى اتخاذ قرارات، وبنعمة الرب تنفيذها؛ وهذا ما يقود للتغيير في الحياة.
- حسنًا! هذا يقودني للكلام معك بمنطقية عن حديث المرة الماضية.
* وما أجمل الحديث المنطقي إن استند على أساس إرضاء الله والاعتماد على كتابه!
- لقد اقتنعت من كلامك المرة الماضية أن هناك الكثير من الأمور، التي هي في ذاتها بريئة، لكنها تستهلك الكثير من وقتي، ولعلها أحد أهم أسباب الفتور الروحي في حياتي.
* وماذا قرّرت تجاه هذه الأمور؟
- هذا ما أودّ أن أتحدث إليك عنه اليوم. إني أجد القرار صعبًا جدًا أن أمتنع عن كل الأشياء التي تحدثنا عنها كأمثلة. فلا أستطيع ألا ألعب الكرة مطلقًا أو ألا استخدم الكمبيوتر أو الموبايل، ولا أن أكفّ عن النزهات. سأتحول بهذه الطريقة إلى كائن غريب عن سني.
* يا صديقي مهلاً! من طلب منك أن تكفّ تمامًا عن هذه الأمور؟ لقد سبق وأخبرتك أن قَدرًا معتدلاً من هذه الأمور لن يضرّ. وبالطبع أنا لا أريدك أن تكون كائنًا غريبًا عن سنك، بل يسعدني أن أراك مرحًا منطلقًا متمتعًا بالإمكانات التي وضعها الله في يدك. لكني ما أود أن تبحث عنه هو الاعتدال يا صديقي.
- ومن أين أعرف حدود الاعتدال في هذه الأمور؟! هل تحدد لي مثلاً عددًا من الساعات لممارسة كل أمر من هذه الأمور؟
* لن أضع لك أنا قوانين. بل أنت، بنعمة الله، الذي ستتعلم كيف تضع الحدود، ولا تسمح لأيّ من هذه الأشياء بأن يتجاوزها.
- أنا!! كيف؟!
* تعلم أن تنظر لكل الأمور من منظور هام للغاية.
- ما هو؟
* اسأل نفسك: ماذا ستجني من ممارستك لهذا الأمر أو ذاك على المدى الطويل. فحياتك غدًا تتأثر بمجموع ما تفعله الآن مع ما فعلته بالأمس وأول الأمس.
- رغم أن كلامك يبدو منطقيًا، إلا إني أحيانًا أجد نفسي مسترسلاً وراء المتعة التي يحققها لي شيء ما دون النظر لما سيعود عليَّ غدًا.
* هذا منطق طفل في صفوف التعليم الأولى يرفض ترك لعبه ليتعلم شيئًا. وبالطبع فإن حكمة والديه لا تسمح له بذلك، وهما اللذان يتخذان القرار إذ هو دون المسؤولية. أما بالنسبة لشاب يافع مثلك، يجيد التفكير، وقد وصل من السن ما يجعله مسؤولاً عن قراراته، فلا يصلح مثل هذا المنطق. بل عليك أن تفكر في الآتي أيضًا. وعندما أقول الآتي، لست أريد أن أتكلم عن مستقبل أرضي، وإن كان مهمًا؛ بل عما هو أبعد، أقصد ما يعود بفائدة أبدية. لقد علّمنا الرب «اكنزوا لكم كنوزًا في السماء، حيث لا يفسد سوس ولا صدا، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون» (متى6: 20). فكل ما هو أرضي عُرضة للتلف (السوس) أو الضياع (اللصوص). فتخيل لو أنك صرفت الجزء الأكبر من عمرك في شيء أوليته كل اهتمامك، ثم إذ بك تفقده فجأة؛ فما هو شعورك عندئذ؟
- شعور رهيب بالخسران.. خسران كل شيء حتى الحياة نفسها.
* لذا يا صديقي وجب أن تراعي هذا الأمر. ثم ألفت نظرك لما أضافه الرب عقب ذلك إذ قال «لأنه حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك أيضًا» (متى6: 21). فالأمر الذي توليه اهتمامك الأكبر هو الذي يملأ قلبك ويشكِّل شكل حياتك. فإذا كانت اهتماماتك الأكثر روحية، فلا بد أن ذلك سيظهر في حياة روحية سليمة. أما إن كانت الاهتمامات التي تشغل البال هي التسليات والمتعة فحسب، فماذا ترى يكون شكل هذه الحياة؟
- تافهة طبعًا!!
* ودعني أذكّرك بما قاله الكتاب عن ما يقدمه هذا العالم إنه «شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة» (1يوحنا 2: 16).
- ما معنى «شهوة الجسد».
* إنها بمنتهى البساطة احتياجات الجسد الطبيعي، مثل الأكل والكساء والراحة... الخ. تخيل أن العالم يجذبك لتعيش فقط من أجل هذه الأمور فقط، مُنسيًا إيّاك أنّك، كإنسان، مخلوق على صورة الله، كائن متميّز بعلاقتك بالله. فتجد نفسك لا يعنيك إلا ما تأكل وما تشرب وما تلبس. بالطبع لن يكون هناك مجال لحياتك الروحية أن تتقدم.
- بالطبع أنا لا أحب أن تكون حياتي هكذا. لكن ماذا يقصد الكتاب بـ«شهوة العيون»؟
* إنها أخطر ما في العالم. فهو يبهر العين لتتلفت هنا وهناك باحثة عن الجديد واللامع والمثير والبرّاق. وهو يوظِّف ذلك ليبعدك عن الله! ودعني أعطيك مثالاً للتوضيح. إذا أقتنعت مثلاً أنك في احتياج لشراء حذاء، فتبدأ عينك تتلفت للأحذية التي يرتديها زملاؤك، وتبدأ في مفاضلة الماركات العالمية للأحذية، ومقارنة أي الموديلات أفضل، والألوان، والمحلات التي يمكن أن تشتري منها؛ وتتردد في اتخاذ القرار في كل واحدة من هذه الجزئيات. وهكذا يتحول أمر بسيط، إلى قصة طويلة تستهلك وقتًا طويلاً. هذا بخلاف ترددك بعد الشراء أنه كان يمكنك أن تشتري شيئًا أفضل، ثم رغبتك المستمرة لشراء حذاء جديد!! فإذا أضفت للحذاء باقي قطع الملابس ثم الموبايل ثم .. ثم. فستجد اللحياة تحولت إلى دائرة مفرغة من الدوران على المحلات ومشاهدة الفاترينات والكتالوجات ومواقع النت للشراء!! كل هذا وأنا لم أتعرض للجانب النجس من شهوة العيون.
- يبدو أن الأمر أصعب مما توقعت. بقي أن تعرّف لي «تعظم المعيشة».
* هو باختصار الرغبة المستمرة في أن أكون أفضل من الآخرين. وهو الدوران في فَلَكِ الذات، كأن العالم خُلق للشخص لذا ينبغي أن يكون هو على قمته. وهو أمر مدمِّر روحيًا. فهو عكس الاتضاع اللازم للتعامل مع الله والتمتع ببركاته. وعكس الرغبة في خير الآخرين الذي هو روح الخدمة. وعكس كل ما هو روحي.
- يا له من أمر بغيض!
*هذا هو العالم وما يقدّمه يا صديقي. لذا وجب على من يريد التمتع بالله أن يسمع هذه النصيحة «الوقت منذ الآن مُقصَّر لكي يكون... الذين يستعملون هذا العالم كانهم لا يستعملونه. لأن هيئة هذا العالم تزول» (1كورنثوس7: 29-31). فنحن نستعمل العالم مجرد استعمال، نَمُرّ بأرجلنا فيه فقط، وقلوبنا فوق حيث كنزنا وحيث وطننا السماوي.