رأينا في المرات السابقة أن الله ميَّز الإنسان بالذهن والتفكير، ولكن الخطية التي أفسدت قلب الإنسان، أفسدت أيضًا ذهنه. فأصبحت أفكار الإنسان تخدم وتخطِّط لكي ترضي ميول قلبه الفاسدة. ورأينا أن الشيطان يرغب ويُسَرّ بأن لا يفكـِّر الإنسان، أو أن يجعله يفكـِّر بطريقة خاطئة. ومع هذا رأينا أيضًا أن ذهن الإنسان ليس مُستعبَدًا لكنه مسؤول عن تشغيل ذهنه، ويمكنه أن يستنتج الأمور الصحيحة، حتى وإن كان عاجزًا عن تنفيذها. فهو مسؤول عن التفكير والقرار، وليس عن القدرة والتنفيذ. فإذا أدرك أن التوبة والإيمان ضروره لا بديل عنها للنجاة من الجحيم، وصرخ إلى الله، فسيمنحه الله الإيمان الذي طلبه (أفسس2: 8).
في هذه السطور سنرى أن الرب كان يطالب التلاميذ، وكل المؤمنين، بأن يفكـِّروا ويفهموا ويستنتجوا؛ فالمؤمن لا يتحرك بأحاسيس داخلية مُبهَمة غير مفسَّرة، أو بمجرد انفعالات عاطفية وإنسجام، لكنه يؤدّي أموره بالروح، يصلّي ويرنم بالروح ولكنه يؤديها بالذهن أيضًا (1كورنثوس14: 15).
من البداية كان الرب يريد من التلاميذ أن يفهموا ويستنتجوا ويعرفوا من هو، من خلال معاملته معهم وكلامه، وأيضًا من خلال ما يفعل معهم وأمامهم. وعندما صنع أمامهم معجزة إشباع الخمسة آلاف بالخمسة خبزات وسمكتين وفضل منهم إثني عشر قفة حملها التلاميذ، لكنه وجد أنهم بهذا أيضًا لم يفهموا «لأنهم لم يفهموا بالأرغفة إذ كانت قلوبهم غليظة» (مرقس6: 52)، اضطر أن يمررهم في أصعب الظروف وأقساها؛ فأمرهم أن يدخلوا السفينة، لتهيج الرياح عليهم، ثم يأتيهم ماشيًا على الماء، فكانوا معذَّبين وصرخوا وخافوا جدًا، كل ذلك لأنه يريدهم أن يفهموا.
كان الرب يتكلم بأمثال، وكان يريد من تلاميذه أن يفهموا المثل والتشبيه ومعناه وتفسيره. وكان هذا في البداية صعب عليهم لكنه درَّجهم خطوة خطوة لكي يتعلموا كيف يفكروا لكي يفهموا من تلقاء أنفسهم. في إنجيل متى 13 تكلم بأمثال ملكوت السماوات مبتدئًا بمثل الزارع. وعندما سأله تلاميذه «لماذا تكلّمهم بأمثال» (مت13: 10)، ذكر لهم أن ملكوت السماوات له أسرار يقولها في أمثال، وينبغي أن يجتهد الإنسان ويفكـِّر ليفهم من الأمثال هذه الأسرار. لكنه قال لهم أيضًا إنه بالنسبة للجموع ولغير المؤمنين لا يريدون أن يفعلوا ذلك فهم «سامعين لا يسمعون ولا يفهمون... لأن قلب هذا الشعب قد غلظ» (ع13، 15). فغلاظة قلوبهم هي التي تجعلهم لا يفهمون ما يسمعونه. أما بالنسبة للتلاميذ، فيؤكـِّد أنه ينبغي أن يعرفوا هذه الأسرار ويفهمونها «أُعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات» (ع11). ثم يمتدح الرب المعرفة والفهم قائلاً لهم إن الذي يقدِّر ويبذل مجهودًا في أن يفهم ما أُعطى له من أسرار، فسوف يُعطيه الرب المزيد، وأما من لا يقدِّر ولا يريد أن يفهم، فحتى ما فهمه سوف يفقد قيمته في حياته «فإن من له سيُعطى ويزداد وأما من ليس له فالذي عنده سيؤخذ منه» (ع12). وبعد أن أفهمهم الطريق، وأنه ينبغي أن يفكـِّروا لكشف الأسرار؛ فسَّر لهم المثل دون أن يطلبوا منه ذلك.
وفي إنجيل متى 15 تكلَّم بمثل آخر قائلاً لهم «اسمعوا وافهموا: ليس ما يدخل الفم ينجِّس الإنسان، بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الإنسان» (ع10، 11). في هذه المرة أيضًا لم يفهموا، فسأله بطرس أن يفسِّر لهم المثل، لكن الرب لم يُصادق على هذه الحالة، وعلى عدم محاولتهم الفهم من أنفسهم وتشغيل أذهانهم؛ فقال لهم معاتبًا «هل أنتم أيضًا حتى الآن غير فاهمين» (ع16). وهنا يطالبهم أن يفكـِّروا ويفهموا من أنفسهم. ثم بعد ذلك فسَّر لهم المثال، بعد أن أكَّد على المبدإ.
ثم في إنجيل متى 16 تقدَّم معهم خطوة أخرى في الدرس، فقال لهم أن يتحرزوا من خمير الفريسيين والصدوقيين، إلا أنهم أيضًا لم يفهموا، وفكَّروا في أنفسهم أنهم لم يأخذوا خبزًا. لكن الرب، الذي لا يُسَرّ ببلادة الذهن وعدم التفكير، وبـَّخهم بشدة قائلاً: «لماذا تفكـِّرون في أنفسكم، يا قليلي الإيمان، أنكم لم تأخذوا خبزًا أ حتى الآن لا تفهمون؟... كيف لا تفهمون أني ليس عن الخبز قُلت لكم أن تتحرزوا من خمير الفريسيين والصدوقيين؟» (متى16: 8-11). أي أنهم فكَّروا لكنهم فهموا خطأ، وهو هنا يصحِّح أفكارهم. وهنا لم يفسِّر لهم لكنهم «حينئذ فهموا (من أنفسهم) أنه لم يقُل أن يتحرزوا من خمير الخبز بل من تعليم الفريسيين والصدوقيين» (ع12).
في إنجيل يوحنا ص6 تكلـَّم الرب كثيرًا عن نفسه كخبز الله النازل من السماء، الذي يَهَب حياة أبدية لكل من يأكله، وأنه ينبغي للإنسان أن يأكل جسده ويشرب دمه لتكون له حياة أبدية. وكثيرين عندما سمعوا قالوا «هذا الكلام صعب من يستطيع أن يسمعه» وكثيرين تركوه ورجعوا إلى الوراء. ولكن قال لتلاميذه أن هذا الكلام ليس حرفيًا، لكنه روح وحياة، وسألهم: أ تريدون أنتم أيضًا أن تمضوا أم تفهموا؟ لكن بطرس أجابه «يا رب إلى من نذهب كلام الحياة الأبدية عندك» (ع68)، فأدركوا أن كلامه يحتاج إلى تفكير لفهمه، وأن كلامه هو كلام الحياة الأبدية.
ولحديثنا بقية إن تأنى الرب.