عرفته أبًا صالحًا, هادئ الطباع, محبًّا لأسرته, ملازمًا لبيته. ما رأيته يغضب قَطّ, وما سمعته يصيح أبدًا. ورغم منصبه الكبير في المصنع الذي كان يعمل فيه كمهندس, إلا أنه كان متسربلاً بالتواضع, قليل الكلام, ولو تحدّث أحد إليه أصغي إليه باهتمام. كان مواظبًا على حضور اجتماعات الكنيسة, فتلك هي فسحته, وراحته, بل ونزهته، وحتى سن التقاعد, زاد تمسكه بها ومواظبته عليها, ومشاركته فيها, رغم إصابته بداء الكبد.
كانت له أمنية غالية, أباح لي بها يومًا، وهي: أن يرى بنيه جميعًا في الإيمان, بل وخدّامًا للإنجيل أيضًا. كان شوقه الغامر أن يرى أكبر أبنائه (والذي كان في عامه الجامعي الأخير)، وقد جلس بجواره في الاجتماع. وقال لي وقتها: “لما الولد يحب الرب, ويحب المؤمنين, ويقعد في الإجتماع جنبي, أضمن إنه هيكون في السما جنبي”. لذلك لم يَكُفّ، في كل مرة يذهب فيها إلى الاجتماع، عن أن يقدِّم الدعوة لهم، وخاصة ابنه الأكبر, رغم إنه كان دائم الاعتذار؛ مرة بسبب المذاكرة, ومرة بسبب ميعاد مع صديق, ومرة بسبب زيارة خطيبته, ومرات بسبب مشاهدة المباريات, وغيرها من الأعذار الكثيرة والمتنوعة.
وفي إحدى ليالي رأس السنة رأيته سعيدًا, راضيًا, وكان سبب ذلك أن ابنه وعده بالحضور ليلة رأس السنة, قال له الابن: “أعدك يا بابا بالحضور, لكن فقط على ميعاد العظة”، و كان مقرَّرًا أن يقدِّمها كارزًا مشهورًا. ولكن كُسر قلب الأب عندما لم يأتِ ابنه.
ضَعُف الأب وتدهورت صحته بسرعة, بعد أن اشتد عليه المرض؛ فقرَّرت الأسرة، وعلى رأسها الابن الأكبر، إجراء عملية زرع كبد للوالد الحبيب, وذلك بعد أن تأكَّد الجميع أن تكاليف العملية في متناول اليد, وخاصة أن الأب قد مُنح مبلغًا كبيرًا من المال كمكافأة لنهاية خدمته.
بعد ذلك سافر الابن إلى كليته لإنهاء دراسته الجامعية, وبعدها تراجع الأب عن قرار إجراء العملية. وعندما ناقشته زوجته عن سر عدوله على إجراء العملية, قال لها: “يا زوجتي العزيزة: إني أشعر بأن رسالتي قد أوشكت أن تنتهي, و قد حان وقت رحيلي إلى موطني, فأرجو أن لا تعوّقوني فهذه راحتي وسعادتي”. انزعجت الزوجة وارتبكت، وبينما كانت تحتضن زوجها كان الألم يعتصر قلبها, وقالت له: “لكن الأولاد يودّون لو أجريت العملية وخاصة ابننا الأكبر”.
أجابها الزوج: “لا داعيَ للعملية, وأرجو أن لا تحزنوا. ولماذا تحزنوا وأنا سأكون فرحًا مع المسيح؟ وعمومًا أنا أعرف أن ابننا ينوي على الزواج هذا الصيف, ومشروع الزواج يحتاج إلى مال كثير, فلماذا أصرفه بغير داعٍ, وأرجو منك يا شريكة حياتي المخلصة أن تحرصي على أن يتم الزواج في الوقت الذي حدَّده ابننا العزيز, بلا تأجيل مهما كانت الأسباب”.
كانت كلمات الزوج على مسمع الزوجة حادة, كالسكاكين تقطِّع في أحشائها, فاقترب منها، وبرفق كفكف دموعها، وهو يقول لها: “لي إشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا”. وبعد أيام قليلة تحققت شهوة الرجل, وانطلق ليكون مع المسيح.
وجاء الابن ليشارك الأسرة في عملية الدفن بعد أن عاتب أمه قائلاً: “لماذا لم يسافر أبي لإجراء العملية؟! لماذا ياماما؟! أما إتفقنا؟! لماذا لم يذهب؟! لماذا؟! لماذا؟!”.
فأجابت الأم بصوت متقطّع: “ولدي.. إن بابا كان لديه يقين بالرحيل, سواء أجرينا العملية أو لم نجرِها, وفضَّل بابا أن لا يجريها حتى يوفر لك المال اللازم لزواجك, وأوصى أن يتم الزواج في الوقت الذي حددته”.
وهنا انهار الابن وهو يصرخ من أعماقه: “يا حبيبي يا بابا. ثم وقع على جسد أبيه وراح يملأه بالقبلات مع أخوته.
وهناك في المقابر حدث أمر كنت أتمنى أن أكون شاهد عيان له, لكن نقله لي أحدهم, وهو أنه في اللحظات الأخيرة من دخول جثمان الأب إلى المقبرة، وقبل أن يُوارى الجسد التراب, قطع الابن الصمت الرهيب الذي خيم علي المكان قائلاً: “سامحني يابابا! يا من ضحيت بصحتك لأجلي, وبالمال من أجلي, وأوقاتك من أجلي, وأنا لم أطِعك ولا مرة واحدة, في ما كنت تحب وترغب, مع السلامة يا بابا, نِمْ قَرير العين, وأعدك بأن أذهب إلى الاجتماع، وبمعونة الرب سأتوب, حتى انضم إلى جوارك في السماء”.
عزيزي القارئ.. عزيزتي القارئة..
بحق كان المشهد مؤثِّرًا على جميع المشيّعين, لكن المشهد الأكثر تأثيرًا, ويستحق منا أن نفكر فيه طويلاً, هو يوم أن قدَّم لنا الله ابنه الوحيد, ولم يشفق عليه, بل بذله لإجلنا أجمعين. إنها قصة الحب العجيب التي رواها لنا المسيح بدماه ساعة الصمت الرهيب. لقد كان مسحوق الفؤاد, ومجروح الجبين؛ ورغم ذلك أبرأ أذن ملخس, وغفر لأعدائه, واعتنى بأمه, إذ استودعها لعناية تلميذه الحبيب يوحنا, بل وقَبِلَ توبة اللص. إنها أروع وأسمى قصة حب في الوجود. «لإنه هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد؛ لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا3: 16)
لا أدري إن كانت كلمات الشاب هذه من القلب صادقة أم مجرد عواطف تزول قوتها وفاعليتها بمجرد الخروج من المدافن. لكن أرجو أن يكون تقديرنا لمحبة المسيح وتضحيته, التقدير الصحيح, فى المكان الصحيح, والزمان الصحيح, وبالطريقة الصحيحة, اللائقة بمحبته الفائقة المعرفة.